اقتراحات الموقعمقالات

موسيقى الفلسفة

«الموسيقى قانونٌ أخلاقي، إنها تُعطي روحًا للكون وأجنحةً للعقل وطيرانًا للخيال وسحرًا للحزن وبهجةً وحياةً لكل شيء، إنها جوهر النظام، تحملنا إلى ما هو خير وعادل وجميل كله». هكذا عبَّر «أفلاطون» عن قوة الإيقاع الموسيقي وأهميته في تحقيق تناغم الروح، الذي من شأنه أن يكون حقلًا ناضجًا لتناغم العقل. ولهذا السبب أيضًا جعلها الخطوة الأولى في منهجه التعليمي الطويل، وذهب إلى أن اضمحلال الحالة المثالية سيبدأ باضمحلال الموسيقى، وأن الابتكار الموسيقي محفوفٌ بالمخاطر على الدولة، لأنه عندما تتغير أنماط الموسيقى، تتغير معها دائمًا القوانين الأساسية للدولة، فالثورات الاجتماعية والسياسية عادة ما تسبقها ثورات موسيقية: «دعني أكتب أغاني أمة ولن أهتم بمن يكتب قوانينها»!

سنة 2017، تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو أثار جدلًا واسعًا، إذ ظهر فيه أحد مُعلمي الفلسفة داخل مركز تعليمي وهو يُمارس التدريس بالغناء والرقص على أنغام الموسيقى، وانقسم متداولو الفيديو بين مؤيدين من طلابه لطريقة الشرح والتدريس المبسط لمنهج مادة الفلسفة، ومعارضين لطريقة التدريس المخالفة لقيم العملية التعليمية. تخيل أنك جالس في قاعة محاضرات، تنتظر بصبر سماع بعض شروح الفلسفة، فإذا بالمُحاضر الذي جئت لرؤيته وسماعه يتجول في أروقة القاعة، أو يعتلي ما يُشبه خشبة المسرح، ويبدأ في الغناء: أغنية عن الموضوع الذي كنت تتوقع منه أن يتحدث عنه. لقد كُنت تتوقع عرضًا تقديميًا مُعتادًا، تتسلل إليه أحيانًا روح الدعابة للتخفيف من وطأة المادة العلمية الجافة والمُعقدة، وتعقبه جولة تكليفات وأسئلة تهدف إلى استنباط إجابات مُضيئة. لكن هذا المُحاضر بالتحديد تحدى هذه التوقعات كلها بالغناء، فهل ستصاب بخيبة أمل وتغادر على الفور؟!

أنا أشك في ذلك، سوف تتفاجأ بالتأكيد، وقد تعد هذا المشهد مثيرًا للسخرية بدرجة لا يمكن تصديقها وتعمد إلى تصويره، لكن الشعور بالفضول من شأنه أن يبقيك في مقعدك، بل قد تكون سعيدًا بهذا التحول في الأحداث إذا تبين لك أن المُحاضر يُجيد الأداء الغنائي، لا سيما إن كان برفقة فرقة موسيقية جيدة، وكانت أغنيته تحتوي على كلمات مُثيرة فلسفيًا، تتعلق مُباشرة بموضوع المحاضرة وأهم عناصره وقضاياه!

لا تندهش عزيزي القارئ، فبغض الطرف عن العبث التعليمي والفوضوية التلقينية في بلادنا، لم تكن الموسيقى الغنائية بعيدة عن الفلسفة عبر تاريخها الطويل، فقد غنى الشاعر الإغريقي «هوميروس» (Homer) ملحمتي الإلياذة والأوديسة اللتين خلَّد فيهما حرب طروادة شعرًا بدقة متناهية، وكان الفيلسوف الألماني «آرثر شوبنهاور» (Arthur Schopenhauer) عازفًا جيدًا للناي بالمقاييس كلها، وألَّف الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» (Friedrich Nietzsche) عددًا من المقطوعات الموسيقية التي عزفها على البيانو، ورغم أنه من الناحية الموسيقية لم يكن صاحب رؤية مثلما هو الحال في فلسفته، كانت مقطوعاته ذات مصداقية تامة في إطار المصطلح الرومانسي. كذلك كان الفيلسوف الأمريكي التحليلي «دونالد ديفيدسون» (Donald Davidson) عازفًا بارعًا على البيانو، وقد تعاون مع المُلحن الأمريكي «ليونارد بيرنشتاين» (Leonard Bernstein) في إنتاج جامعي لمسرحية «الطيور» (The Birds) للكاتب الإغريقي «أريستوفانيس» (Aristophanes). أما الفيلسوف الأمريكي «تورين ألتر» (Torin Alter) فيقود الآن فرقة روك تُدعى «الملائكة الكاذبة» (The Lying Angels)، في حين ينتشر في المملكة المتحدة عددٌ من الفلاسفة شبه المحترفين في موسيقى الجاز (Jazz)، ومنهم «أندرو باوي» (Andrew Bowie) (ساكسفون Saxophone) المتخصص في الفلسفة الألمانية، وفيلسوف الجمال والسياسة والعقل «آندي هاميلتون» (Andy Hamilton) (بيانو)، وفيلسوف المثالية الميتافيزيقية والعدمية الوجودية «جيمس تارتاليا» (James Tartaglia) (ساكسفون)، وغيرهم.

ربما بدا مشهد التغني بالفلسفة مُسليًا ومُثيرًا، لكن الفلسفة الحقيقية –رغم كون محاضراتها مُملة في كثيرٍ من الأحيان– بعيدة البُعد كله عن الترفيه، ومن المؤكد أنه ليس بإمكان الفيلسوف أو المُحاضر نقل ثراء المحتوى الفلسفي لمحاضرته بأغنية، حتى لو صيغت بعناية بحيث تُبسط هذا المحتوى المُعقد. وحتى لو كان فيلسوف الغناء المُفترض قد عمل جيدًا في هذا الصدد، فإن فكرة مزج الفلسفة بالموسيقى الغنائية لا تزال سخيفة بالنسبة إلى مشتغلين كثرة بها، اللهم إلا إن كان الهدف محض توجيه ذهن المتلقي نحو فكرة أو مشكلة مُلحة، بحيث يمكن التركيز عليها وتدارسها بهدوءٍ بعيدًا عن صخب الغناء!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا ما يُوضحه فيلسوف العقل والإدراك واللغة الأسترالي «ديفيد تشالمرز» (David Chalmers) في تناوله لمشكلة الوعي الصعبة، وأدائه لأغنيته المشهورة «زومبي بلوز» (Zombie Blues). سُمِّيت الأغنية على اسم «الزومبي الفلسفي» (Philosophical Zombie) (الكائن المماثل للإنسان جسدًا، المفتقر للوعي والإرادة الحرة، الذي افترضه «تشالمرز» في تجربة فكرية تهدف إلى التأكيد أن الوعي ليس ماديًا). لكن الأغنية ذاتها لا تنطوي على أفكارٍ جادة تروم توضيحها أو مناقشتها، والمقصود منها فقط أن تكون بمقام مرحٍ تذكيري أو تحفيزي للمشتغلين بمشكلة الوعي بعد يوم شاق من المؤتمرات والمناقشات الصعبة. ومع أن تشالمرز يتمتع بحضور ممتاز على خشبة المسرح، إلا أن صوته الغنائي ليس جيدًا أو جذابًا، وهو ما يزيد المتعة بالطبع!

موسيقى الفلسفةديفية تشالمرز يُغني زومبي بلوز

Source: https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/8/8d/David_Chalmers_TASC2008.JPG

أصبحت «الزومبي بلوز» فرقة موسيقية مشهورة، مُغنيها الأساسي «تشالمرز»، وأغنيتها الوحيدة هي التي تحمل الاسم ذاته، وقد أدّاها في كثير من مؤتمرات العلوم الإدراكية والفلسفة، بما في ذلك مهرجان «كواليا فيست» (Qualia Fest)، وهو مهرجان موسيقي أسسه الفيلسوف الأمريكي «ريتشارد براون» (Richard Brown وتؤدي فيه فرقٌ مختلفة من فلاسفة العقل وعلماء الأعصاب مقاطع غنائية وموسيقية بخصوص الوعي والكواليا. يقف تشالمرز على خشبة المسرح بسُترته الجلدية وقصة شعره التي توحي بقائد الدراجة النارية مُرددًا كلمات الأغنية على أنغام موسيقى الروك: أنا أتصرف كما تتصرف، أفعل ما تفعله/ لكنني لا أعرف، كيف يعني أن تكون أنت/ ما هو الوعي؟ ليس لدي أدنى فكرة/ لقد أصبت بحزن الزومبي!

لا شك أن الأغنية ليست من النوع المحتمل تضمينه في ألبوم يتداوله الناس في مناسابتهم المختلفة، لكنها في الحقيقة تستحق الذكر كونها مُدخلًا لواحدٍ من أهم الأسئلة وأصعبها في العلم والفلسفة المعاصرين، أعني السؤال: ما الوعي؟ لقد كان ثمة اعتقاد مُسبق بأن الوعي يكمن في الروح، لكن كثيرًا من العلماء اليوم يذهبون إلى أن ما نسميه الوعي ما هو إلا محض وهم! فكيف يمكن تسوية هذا القضية أو البت فيها؟!

ينظر «ديفيد تشالمرز» إلى الوعي بوصفه التحدي الأكبر الأخير للعلم. لقد حصلنا على فهمٍ جيدٍ للغاية من علم الأعصاب لجوانب السلوك المختلفة، ولكيفية استجاباتنا فيما نفعله، مثل المشي والتحدث وما إلى ذلك، لكن المشكلة الصعبة للوعي تفسير لماذا تكون تلك الأشياء كلها التي يفعلها دماغنا مصحوبة بتجربة ذاتية، ولماذا نشعر كأنها شيء من الداخل؟!

يتبنى الفيلسوف الأمريكي «دانييل دينيت» (Daniel Dennett) وجهة نظر متطرفة إلى حدٍ ما، مفادها أنه لا يوجد شيء يمكن تفسيره فيما يتعلق بالوعي، وأنه محض وهم: نحن بحاجة فقط إلى شرح أنماط سلوكنا. ومع ذلك فإن ثمة أسبابًا منهجية للاعتقاد بأن أي تفسير مادي للوعي سوف يفشل، قد يُقدم لنا علم الأعصاب تفسيرات رائعة للمشكلات السهلة المتعلقة بالسلوك، لكنه سيتطلب دومًا عُنصرًا إضافيًا بطريقة أو بأخرى للوصول إلى الوعي. لذا ربما يتعين علينا في نهاية المطاف أن ننظر إلى الوعي كونه عُنصرًا أساسيًا في الطبيعة، وأن نبحث عن المبادئ الأساسية المشابهة للقوانين الأساسية في الفيزياء التي تربط الوعي بكل شيء آخر!

هل هذا يعني أن الوعي موجود بعد الموت؟ لا شك أن هناك علاقة قوية بين الوعي والعمليات الجسدية، لذلك قد لا يُمكننا علميًا –على نحوٍ قاطع– فصل الوعي عن الجسد بالدرجة التي قد يذهب إليها المتحمسون لهذا المنحى. الأدلة كلها تشير إلى أنه حيثما وُجد الوعي، فإنك تجد عمليات مقابلة في شيء مثل الدماغ، وإذا أثرت على الدماغ فإنك تؤثر على الوعي! لكن من الأقدر على الإجابة عن سؤال الوعي الصعب؟ هل هو عالِم الأعصاب أم الفيلسوف أم عالِم النفس؟ “لقد كانت مشكلة الوعي في الواقع منطقةً بحثية غنية للغاية على مدار العشرين عامًا الماضية، إذ خاض فيها الباحثون من مجالات وتخصصات مختلفة: الفلسفة، علم الأعصاب، علم النفس، الرياضيات، الفيزياء، وغيرها، وهو تغيير كبير عما كان عليه الحال قبل ثلاثين عامًا. ومع ذلك ربما كانت المجالات المُرشحة بقوة: علم الأعصاب وعلم النفس والفلسفة، وقد شهدنا تفاعلًا ثلاثيًا كبيرًا بين هذه المجالات. ستأتي النتائج من علم الأعصاب، وقد نحصل على شيء ما بشأن الوعي العصبي المترابط، لكن لا يمكنك قراءة الاستنتاجات من البيانات فقط، أعتقد أن هناك أيضًا دورًا للفيلسوف في تقييم الاستدلال، ليرى: ما الذي شرحناه في هذا الإطار، وما الذي لم نفسره؟

بالعودة إلى فيلسوف الغناء، ما منا من أحدٍ إلا ويُغني، وما منا من أحد إلا ويخرج من تعقيد أفكاره ومشكلاته بالغناء. أنا شخصيًا أغني، وإن كنت أجد صوتي سيئًا للغاية، لكنه في النهاية ليس أسوأ من صوت المشكلات والأفكار التي تتزاحم في رأسي، ولا أدري: أهو صوت الفلسفة أم مطلبها؟ ولئن كان مطلبها، فهي حقًا تستحق الغناء!

مقالات ذات صلة:

رقصة الموت

كيف تؤثر الأغاني على نفوسنا عند الاستماع إليها؟

فلسفة الفكاهة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية