بين الشرق والغرب ما يجب أن يكون .. الجزء الأول
في كثير من الأحيان نبدأ النقاش حول التفسير والتحذير لما قد تتعرض له المجتمعات من خطر الغزو الثقافي، والآثار المترتبة على هذا التحول الخطير.
لكن في بحثنا هذا سيكون الكلام مختلفًا، بمعنى: أن السيطرة والغزو قد جرى بدرجة كبيرة على أغلب شعوب العالم.
فما بين تيارات متباينة فكريًا وأيديولوجيًا، استهدفت المجتمع في جميع أنساقه سواء اجتماعية أو اقتصادية أو…، تمزقت أغلب المجتمعات رغم امتلاكنا من الثقافة والوعي والأيديولوجية ما نستطيع به التغلب على هذا الأمر، الذي يشير بكل وضوح إلى نجاح الغزو الفكري، ودخول مرحلة الانسحاق الحضاري التام، إن صح هذا التعبير.
إن أثقل ما يواجهنا اليوم في ظل هذا الوضع الصعب، البدء بتعريف المنطلقات لما يجب أن يكون، هذا ليس باليسير نتيجة الكم الهائل من التغييب المتعمد للفكر والثقافة الخاصة بهويتنا، وما يمثله من خصوصية حضارية على وشك الطمس النهائي.
نعلم جميعًا أن ما يفرق الإنسان عن الحيوانات الممارسات التي تتصف بأنها ممارسات إنسانية، وتلك الممارسات ما لم تكن مشيدة على أيديولوجية سليمة نابعة من رؤية واقعية عن الوجود، على الرغم من اشتراك الإنسان مع الحيوان في غرائز الغذاء والدفاع عن النفس وغيرها من الغزائز المادية، فإن حياة الإنسان ليست متقومة بهذه الغرائز فقط.
بل إن قوته العقلية تميزه عن غيره من المخلوقات، وهي التي يجب عليها أن تُخضِع باقي الغرائز لما فيه سعادة الإنسان وتكامله بالمعنى الحقيقي، لذلك نجد حاجة كبيرة لدينا نحن البشر للإدراكات العقلية حول المفاهيم في حياتنا، مثل الخير والعدل والصدق والأخلاق…
لذلك لكي تكون حياتنا حياة إنسانية يجب أن نفهم ما هي أعمالنا نحن البشر؟ ولماذا يجب علينا فعل عمل معين وعدم فعل عمل آخر؟ وما الغاية التي نعمل من أجلها؟
كل تلك الواجبات والممنوعات نتاج مجموعة من القواعد العامة التي تشكل سلوكنا بشرًا، أو المنهج الذي نتبعه في حياتنا فيحدد لنا ما يجب وما لا يجب، وهو ما يسمى بـ”الأيديولوجية”، لذلك نجد أن الظفر بأيديولوجية سليمة أمر هام وضروري لكل إنسان.
هنا يطرح سؤال نفسه، كيف تتكون الأيديولوجية؟ وما علاقتها بالرؤية الكونية؟ وإن كانت بينهما علاقة فما نوعها؟
نحتاج للإجابة عن هكذا سؤال إلى مقدمات طويلة لا تناسب بحثنا هذا، لذلك نحاول الجواب بما يناسب المقام، لكن في البداية نجد من الواجب توضيح ما المقصود بالرؤية الكونية والفارق بينها وبين الأيديولوجية.
ببساطة الرؤية الكونية: “النظرة الكلية التي تدور حول ما هو موجود”، مثل الاعتقاد بوجود خالق الوجود، فالرؤية الكونية تتكون من “الأفكار النظرية فقط” وهي بذلك في مقابل “الأيديولوجية”، لأن الأيديولوجية تتكون من “الأفكار العملية” التي تحدد الشكل العام للسلوك الإنساني.
لذلك فالاعتقاد بوجود خالق الوجود مرتبط بالرؤية الكونية، إذ لا يتعلق بعمل سلوك مباشرة، وأن الاعتقاد بوجوب عبادة خالق الوجود وشكره إنما هو جزء من الأيديولوجية، لأنه يتعلق مباشرة بسلوك وعمل يقوم به الإنسان.
بالرجوع إلى السؤال، نلاحظ اختلاف الآراء حول الإجابة بين النفي والتأكيد.
البعض يرى أن الرؤية الكونية تنتج منها مباشرة أيديولوجية خاصة بها، وأن الاختلاف في الأيديولوجيات إنما ناشىء من اختلاف الرؤى الكونية.
يرى البعض الآخر أن الأيديولوجية ليست لها علاقة إطلاقًا بالرؤية الكونية، ومع أي رؤية كونية يمكن قبول أي أيديولوجية، تمامًا مثل اختلاف أذواق الناس في اختيار طعام معين أو لون ملابس معين، فإن ذلك ليس له علاقة بالرؤية الكونية.
نعتبر أن الرأيين –من وجهة نظرنا– غيرُ صحيحين، فحقيقة الأمر أن بين الأيديولوجية والرؤية الكونية علاقة، لكنها ليست كما يفرضها الرأي الأول أو الثاني، فالعلاقة الصحيحة أن الأيديولوجية محتاجة إلى رؤية كونية، لكن الرؤية الكونية وحدها غير قادرة على تعيين الأيديولوجية ذاتيًا.
لبيان ذلك، نجد أن الإنسان الذي يسعى إلى سلوك سليم يسبب له السعادة، فإنه يبحث عن سلوك يوافق الفطرة السليمة ولا يتعارض مع حقائق الوجود، لذلك يبحث عن رؤية كونية واقعية تحدد له تلك الحقائق، ويمكن الاستدلال على صحتها بالدليل والبرهان المنطقي، كي يصل بواسطتها إلى اعتقاد واقعي عن الوجود، فيصل على سبيل المثال إلى حقيقة الاعتقاد وواقعيته بوجود خالق لهذا الكون، فالإنسان العاقل كما ذكرنا يبحث عن سلوك سليم يسبب له السعادة، هذا السلوك يجب أن يكون قائمًا على أفكار نظرية سليمة، وهو ما يكون على عهدة الرؤية الكونية الصحيحة، هذا محل احتياج الأيديولوجية إلى الرؤية الكونية، من حيث مجموعة الأفكار النظرية المحددة للسلوك.
لكن الرؤية الكونية ليست كافية وحدها للبدء بممارسة السلوك، إنما حددت إطارًا نظريًا يقر بوجود خالق للوجود يجب الاعتقاد به، لذلك تحتاج الأيديولوجيةُ الرؤيةَ في هذا، وتحتاج أيضًا مقدمات أخرى تنضم إليها، لكي تستطيع أن تبدأ ممارسة سلوك معين وفق الاعتقاد “النظري” النابع من الرؤية الكونية.
إن الاعتقاد بوجود خالق ووجوب شكره يحتاج إلى مقدمات أخرى عملية في “الدين”، توضح لنا كيفية التعامل مع هذا الاعتقاد وما يجب علينا فعله، هنا تستكمل الأيديولوجية مقدماتها بعد الرؤية الكونية، إذ يوضح لنا “الدين” كيفية شكر الخالق، وبهذا يكتمل سلوك الإنسان القائم على فكرة نظرية ومقدمات حددت الأيديولوجية، والتي عن طريقها نحدد ما يجب وما لا يجب من الناحية العملية، فيكون السلوك نابعًا من رؤية نظرية ومقدمات عملية جعلت للإنسان أيديولوجية محددة.
بناء على ما سبق نحاول في بحثنا هذا تناول مواضيع تؤهلنا لتحديد رؤية عامة عن الكون والوجود، إذ نسعى إلى معرفة هل الوجود مساوٍ للمادة؟ أم أن المادة ليست إلا جانبًا واحدًا من جوانب هذا الوجود؟ وهل ما بين عالم المادة وما وراء المادة ربط؟ وعلاقة ذلك بالإنسان، وهل يفنى بفناء الجسد أم لا؟
كما نحاول الوصول إلى معرفة هل أننا نملك سبيلًا يقينيًا لمعرفة المنهج الصحيح للحياة الفردية والاجتماعية؟ وكيفية الوصول إليه لتحقيق قدر من السعادة للإنسان، وهل هي فقط في هذه الحياة الدنيا أم يمكن أن تكون دائمة؟
هذا كله في إطار من العرض الموضوعي والمنطقي تحت عنوان “بين الشرق والغرب وما يجب أن يكون”، للدلالة على اختلاف الرؤى والأيديولوجيات، وما نتج عنها من اختلافات جوهرية حول الوجود والإنسان، والذي بدوره أنشأ سلوكيات متباينة أحيانًا ومتناقضة أحيانًا أخرى، وما سببه ذلك في تغييب لنور الحق والحقيقة حول حقائق الوجود، وحقيقة الإنسان وحريته الإنسانية وليست الحيوانية، وسبيل سعادته الحقيقية.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا