نحن نعيش في عالم من الألوان، عالم يغمره الضوء كل صباح بألوانه الطيفية المختلفة، فتبدو موضوعاته كأنما اغتسلت من عتمة الليل وارتدت أزهى ثيابها، حتى لكأنك –حين تنظر إليها– بإزاء لوحة فنية عامرة بالألوان، لوحة تتجلى روعتها في تباين ألوانها وتعددها: فمن الجبال جدَدٌ بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن بطون النحل شرابٌ مختلفٌ ألوانهُ فيه شفاءٌ للناس، ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانهُ كذلك، صُنع الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
تأمل ما يحيط بك –أو ما يدور بخلدك– من موضوعات، تأمل السماء والأشجار والمباني، الأرض وما تؤويه، البحار وما تحويه، الأنهار وما تخفيه، أثاثاتنا ومتاعاتنا اليومية، ملابسنا وأطعمتنا، شعاراتنا ومقتنياتنا، محتويات أحلامنا وتخيلاتنا، القلم الذي تكتب به، والكتاب الذي بين يديك، كل هذه موضوعات ملونة، بل إن ألوانها الوسيلة الأولى للتعرف عليها وتمييزها، فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير. فإذا ما زاغت الأعين بين التماعات الألوان ورونقها، وارتبك العقل إزاء طبيعتها ومصدرها، فاعلم أنها الآية الكبرى التي حيّرت –وما زالت تحيّر– الفكر العلمي والفلسفي لقرونٍ طويلة خلت.
من الصعب قطعًا تحديد نقطة بدءٍ زمانية أو مكانية للاهتمام الفلسفي بالألوان، لكن الأمر المؤكد أن هذا الاهتمام إنما يضرب بجذوره في الماضي البعيد، إذ برع المصريون القدماء –على سبيل المثال– في صناعة الأصباغ ومزج الألوان، ومن ثم فلسفتها بخلع الدلائل المختلفة عليها، وهو ما تشهد به النقوش والرسومات الملونة على جدران المقابر والمعابد الفرعونية. ولم يكن الباعث إلى هذا الاهتمام –أيًا كان زمانه أو مكانه– مقصورًا فقط على البُعد الجمالي أو الذوقي للألوان، بل إن ثمة أبعادًا أخرى أكثر أهمية للفيلسوف في هذا الصدد، لعل أبرزها البُعد الأنطولوجي، والبُعد الإبستمولوجي، والبُعد الاجتماعي – السيكولوجي.
فمن الجهة الأولى تمثل الرغبة في الكشف عن ماهية الألوان وقالبها الوجودي منطلقًا أساسيًا لمعظم الدراسات الفلسفية المعنية بمظاهر الأشياء وحقيقتها، لا سيما بعد أن أنكر العلم على نحو قاطع وجود الألوان ككيانات –أو خصائص– فيزيائية يحفل بها عالمنا المرئي، فما يعترف به العلم فقط الخصائص الجوهرية أو التكوينية للأشياء، في حين أن الألوان لا تعدو أن تكون محض ملامح لسطوح الموضوعات الفيزيائية، وهي ملامح ثانوية تختلف –بالنسبة إلى سطح الموضوع الواحد– باختلاف زاوية الرؤية، وشدة الإضاءة، ومدى قوة وسلامة الجهاز الإبصاري للرائي، وعلى هذا فليس ثمة موضع محدد في التقرير العلمي –عن الموضوعات الفيزيائية– لتلك الكيفيات التي ندعوها بالألوان، الأمر الذي يُلقي بتبعة البحث الأنطولوجي في الألوان على عاتق الفلاسفة، حتى ولو اتفقت توجهاتهم الميتافيزيقية مع ذلك الموقف العلمي الرافض لوجود الألوان ككيفيات جوهرية لموضوعات العالم الخارجي.
من الجهة الثانية تكتسب الألوان أهمية إبستمولوجية خاصة من حيث كونها علامات أو دلائل أولية لتعيين هويات الموضوعات المختلفة وتمثلها إدراكيًا، أعني لاكتساب الخبرة بكيفية تموضعها مظهريًا في المكان. ولا غرو، فالإبصار اللوني أحد أكثر أنواع الإدراك الحسي أهمية للبشر، وهنا تكمن ضرورة الألوان منطلقًا لمعرفتنا الأساسية بالبيئة المحيطة بنا، بما في ذلك أجسامنا. هذا فضلًا عن المغزى السيمانطيقي المتمثل في دلائل المفردات والتصورات اللونية وارتباطاتها السببية.
من الجهة الثالثة تؤدي الألوان دورًا محوريًا في تشكيل العلاقات الاجتماعية بين الناس، والكشف عن مكنونات الذات عن طريق الميول والأمزجة اللونية العامة للأفراد في المجتمع، فهي أولًا رموزٌ متفق عليها في الاحتفالات والطقوس والمناسبات المختلفة، وهي ثانيًا شعاراتٌ للبنى السياسية والاجتماعية على اختلاف درجاتها، وهي ثالثا جزءٌ من عادات الشعوب وتراثها الثقافي والديني واللغوي الخاص والنوعي، وهي أخيرًا ذات تأثيرات ودلالات سيكولوجية تفوق الحصر، وهو ما يتجلى في استخداماتها التعبيرية –عن وعي أو عن غير وعي– كمرايا عاكسة لمشاعر الصفاء والحب والابتهاج والحزن والفزع والدفء والدهشة، إلخ.
لا شك أن هذه الأبعاد المختلفة من شأنها أن تضعنا أمام كثرة من النظريات الفلسفية المتنازعة إزاء طبيعة الألوان ومغزاها الحياتي بالنسبة إلى الإنسان، أعني أمام نظريات ذات بواعث واهتمامات وأهداف وحجج متباينة، لكن حتى لو حصرنا أنفسنا في إطار بعدٍ واحد فقط، فلن نستطيع اختزال تلك المواقف الفلسفية المتكثرة، ذلك أن تكثرها أمرٌ يفرضه الغموض الميتافيزيقي للألوان في المحل الأول، وتعدد الرؤى والتوجهات الفلسفية عمومًا في المحل الثاني، والتحام الأبعاد البحثية للألوان ببعضها في المحل الثالث. وليس هدفنا من هذا المقال تبني الوجود الواقعي للألوان أو إنكاره ككيانات مستقلة خاصة بالموضوعات الفيزيائية، أي سواء أدركناها أو لم ندركها. إنما نهدف بالأحرى إلى تأكيد فرضٍ أساسي مؤداه أن أي بحث في الألوان لا بد أن يخضع لمستويات مختلفة من التحليل والوصف، مثل المستوى الفيزيائي، المستوى البيولوجي، المستوى الإدراكي، المستوى الاجتماعي، إلخ، وأي مستوى من هذه المستويات له خواصٌ انبثاقية فريدة قاصرة عليه، وله كذلك خواصٌ تشاركه فيها المستويات الأخرى ولا يمكن تجاهلها، ومن ثم، فإذا كان هناك من يزعم –بالمنظور الساذج– واقعية الألوان كونها خواص للموضوعات الفيزيائية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة قيام علاقة هوية بين »الواقعي« و»الفيزيائي«، أو بين »غير الواقعي« و»العقلي« (أو الذاتي)، لأن محتويات البيئة الذاتية الإدراكية –وفقًا لمستواها البحثي الخاص– لا تقل واقعية عن محتويات العالم الفيزيائي، بل ومن دونها يمتنع البحث في الألوان تمامًا.
يعني ذلك بعبارة أخرى أن أي سياق لوني ينطوي منطقيًا على جانبين مترابطين: الأول خاص بالمدْرَك، أي ظاهر الشيء الفيزيائي الذي يبدو ملونًا، والثاني خاص بالمُدْرِك، أي الكائن العضوي المزود بنسق إبصاري لوني، وبناء عليه لا تصح المصادرة على أن الألوان محض خواص فيزيائية فقط، لكن الأقرب إلى الصواب أن نقول إنها خواص لموضوعات لها جوانب فيزيائية ولها أيضًا جوانب أخرى غير فيزيائية، وتكامل هذه العوامل شرط ضروري لمعرفتنا بالألوان، وهو ما يقترب بنا من النزعة الواقعية النقدية (Critical Realism) كما عبر عنها إمانويل كانط (E. Kant).
تهدف النظريات الفلسفية في اللون بصفة عامة إلى الإجابة عن سؤالين مترابطين، الأول عن طبيعة –أو ماهية – اللون في ذاته، والثاني عن نوع الفهم –أو التصور– الذي يجب أن نتمتع به لكي نتمكن من استخدام الحدود اللونية على نحوٍ صحيح. وعلى الرغم من أن إجابة السؤال الأول تستلزم النظر في العالم، في حين تستلزم إجابة السؤال الثاني النظر في الذات المفكرة، فترابطهما يتجلى في أن أي تعيين فلسفي لماهية اللون إنما يعتمد على ماهية التصور اللوني في ذهن الفيلسوف، بمعنى أن الماهية الاسمية (Nominal essence) غالبًا ما تكافئ الماهية الفعلية (Real essence)، حتى ولو أدى ذلك إلى سلب طرفي التكافؤ أو عدم تعيينهما! و ما دامت لدينا –من المنظور الفلسفي– تصورات مختلفة عن اللون، فسوف تكون لدينا بالمثل إجابات مختلفة عن السؤال الخاص بماهية اللون في واقعه الأنطولوجي الخاص. وبغض الطرف عن مدى نجاح أو فشل العلاج الفلسفي لإشكالية اللون، ومدى توافقه أو تنافره مع العلاج العلمي التقني، فإن أبرز نتيجة يمكن أن يوجهنا إليها أن نتعلم كيف ينبغي أن نفكر في اللون، وكيف ومتى نعيد بناء التصور الطبيعي وفقًا لنظرة نقدية تخدم أغراضنا العلمية، وتحقق الاتساق بين برامجنا الإبستمولوجية والأنطولوجية، وهو ما ستكشف عنه النظريات الفلسفية التي نبدأ في عرضها تباعًا.
مقالات ذات صلة:
غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا