ثانيًا: قراءة الاستجابة
تطرح هذه الفقرة ما يُعرف بــ”استجابة الجمهور” للمعجز الغزاوي، الذي أدهش الصهاينة ومن وراءهم فأصابهم بالصدمة المروِّعة، وأسعد الأحرار في العالم وشفى في دنيا العروبة صدور قومٍ مؤمنين. والحق أن قراءة الاستجابة تفضي إلى الفرز الآتي:
استجابة الصهاينة ومَنْ وراءهم من الصليبيين
بدا العدو الإسرائيلي مهزومًا مصدومًا من هول المفاجأة التي أصابته، جراء هجوم المقاومة عليه ومحاولتها تحرير جزء من أرضها في غلاف غزة. لكن اللافت في هذه الاستجابة إقرار العدو بأن يوم السابع من أكتوبر “يوم أسود”، وأنه ظهر بمظهر المرتبك، إذ ذهبت هيبته وتمرمغت كرامته في الوحل بتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. لكن الأكثر لفتًا استدعاء العدو لظهيره الصليبي من الأوروبيين والأمريكيين، الذين هرعوا إلى نصرته بكل شيء على نحو ما قدمه بايدن وفريقه في البيت الأبيض، ومن ورائه فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا، وغيرهم كثير من الأنظمة الأوروبية الحاكمة، وذلك بدءًا بتبني سردية العدو الصهيوني القائمة على كذبة قتل الأطفال وذبح النساء واغتصابهن، وانتهاءً بتدمير البيوت وتدمير الوطن اليهودي.
إنَّ العدو الصهيوني في استجابته للمعجز الغزاوي، عمد إلى تصدير خطاب صراعي يستدعي الدين والقومية اليهودية بإرثها الأوروبي والأمريكي، الأمر الذي يستحضر في المخيلة الحروب الصليبية بكل فضاءاتها ومآسيها، وهو ما من شأنه بعث المفاصل وتشظي المحزات الخطرة في نظرية الصراع الإسلامي – المسيحي عبر قرون من الزمن، تطوي في صفحاتها جولات العرب مع دولة الروم، ومحنة الأندلس والدولة العثمانية والحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي بجنسياته المختلفة، واتفاقية سايكس بيكو والعدوان الثلاثي على مصر ونكسة 1967م، وتدمير العراق وضرب أفغانستان، لقد قالها جورج بوش من قبل في أثناء غزوه للعراق: “إنها حرب صليبية”، وقالها بعض مسؤولي الأمريكان الآن في نصرتهم لليهود على المقاومة في غزة. ولعل الأمر الأشد خطورةً في هذا الشأن، تفجير نظرية الصراع في تجليها العقدي والأيديولوجي على مصراعيها، وفتح ممكناتها على كافة الاحتمالات، كما أنها من جهةٍ أخرى، تبعث بقوةٍ نظرية المؤامرة، وتضرم في معطياتها نارًا لا تنطفئ، وتدحض مقولات ذات بريقٍ وذيوع مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والإنسانوية ورقي الحضارة الغربية المعاصرة وقبول الآخر والتعددية، إلخ.
الاستجابة الرسمية العربية
يبدو كثير من الاستجابات الرسمية العربية ضعيفةً حتى حينه، ولم ترتق إلى مكانة المعجز الغزاوي، ولعل هذا راجعٌ إلى ضعف الإمكانيات السياسية والعسكرية العربية، كما أن بعض هذه الأنظمة مرتبط بعلاقات غربية وأمريكية تحد من حرية حركتها السياسية، وتكاد تشل قدرتها على المناورة السياسية، وبناء الموقف المناسب للحادث الكبير.
استجابة المثقفين العرب
إنَّ تأمل موقف المثقفين العرب يفضي إلى استجلاء الاستجابات الآتية:
المثقفون الأصلاء
هم فئة نقية الفطرة، سليمة السريرة، ثاقبة الرؤية تقوم على الحق، وتدور معه حيث دار. وهؤلاء هم أصحاب المواقف السديدة والمبادئ القويمة والقيم العليا حقًّا وخيرًا وجمالًا، وهم على الواقع المثقفون الحقيقيون الذين يناصرون قضايا أوطانهم وأمتهم وإنسانيتهم دائمًا. والحق أن استجابة هذه الفئة من المثقفين العرب بما تقدمه من خطاب سويٍّ ومتسق في حيثياته واستنتاجاته، تمثِّل فعل مقاومة حقيقيًا يعضد المقاومة الفلسطينية، ويراكم أثرها بتأكيد مشروعيتها، كما هو خطاب ناقدٌ وناقضٌ للسردية الصهيونية التي يسوِّقها العدو الإسرائيلي للعالم كافة، ويكشف عن المسكوت عنه عمدًا في الخطاب الصهيوني ودوائره الأوروبية والأمريكية بترسانتها الإعلامية الضخمة، من حقيقة احتلال اليهود للوطن الفلسطيني وتشريد أهله وقتل أبنائه وهتك مقدساته، وحصار غزة عشرين عامًا، ومنع حق عودة اللاجئين، والتحرش العنصري بأصحاب الأرض، وغيره كثير مما يخفيه الخطاب الاستعماري المراوغ.
المثقفون العدميون
هم فئة سلبية عدمية لم تكترث للمعجز الغزاوي من أساسه. وهذه الفئة غارقة في مشكلاتها الخاصة، أو نزواتها وملذاتها الشخصية. ومما يؤسف له في هذه الفئة، أن تجد فيهم صحافيين، قضاة، محامين، أساتذة جامعات، شعراء، أدباء، مشتغلين بالشأن الثقافي، إعلاميين، إلخ، وإنك لتكاد تموت غيظًا من جِبِلَّة هؤلاء القوم حين ترى أحدهم في خضم هذه المأساة المروِّعة، مشغولًا بعيد ميلاده أو بمباراة في كرة القدم، أو ورقة كتبها أو ترجمها أو بحث نشره، أو مرض ألمَّ به، وغيره كثير من توافه الأمور وصغائرها، التي تكشف عن زيف الوعي وبلادة الإحساس وصغر النفس، بل تكشف عن غيبوبة من الأمية العامة التي تحجبهم عن قضايا الشأن الجاري في سياقه الوطني أو الأممي أو الإنساني.
المثقفون المضلِّلون
هم فئة فهلوية التنوير، أولئك الذين يصدعونك بالكلام المنمق عن الحرية وحقوق الإنسان، والعقلانية والتعددية، ثم تراهم يرون في المعجز الغزاوي نصرًا وإرهابًا معًا. وأنت تكاد تمضغ الصبر فلا تجد فيه مرارة من فرط مرارة خطابهم المعوج الذي يقدمونه للناس طُرًّا في صلفٍ وعجرفةٍ تصيبك بالقرف، وتعمك بالاشمئزاز من هول فداحتها.
يقولون في غير حياءٍ قليلٍ أو كثير: إن من حق المقاومة أن تقاوم الاحتلال، وليس من حقها أن تقتل المدنيين. وهذا كلام يبدو حقًا ووجيهًا في ظاهره، لكنه ينطوي على مغالطةٍ فجةٍ يُعرضون فيها عن الحق والحقيقة معًا، مفادها أن كافة المدنيين الإسرائيليين من الرجال والنساء، أو الغالبية العظمى منهم، جنودٌ إما في الخدمة الفعلية وهم في إجازة عارضة وقت أن وقع هجوم المقاومة عليهم، أو في الاحتياط، وأن صغارهم هم في حقيقتهم جنود مستقبليون. وإذا كان هذا لا يبرر قتل الصغار، فإن المغالطة التي يسكت عنها التنويريون عمًى وعتهًا هي المأساة المروِّعة التي ترتكبها إسرائيل منذ إنشائها عبر مذابحها الفظيعة في صبرا وشاتيلا وقانا وبحر البقر والأسرى المصريين والسوريين والأردنيين في نكسة 1967م، وفي تهجير ملايين الفلسطينيين من قراهم وبيوتهم وأرضهم، ومنعهم من العودة إليها. أيها التنويري الذي يرى بنصف عين فيبصر نصف الحقيقة! أرجو ألَّا يحملك حقدك على المقاومة الباسلة التي تفضح بشجاعتها جبنك وضعفك وعتهك، على أن تغمطها حقها المبين في الوجود وشرف الدفاع عن مقدساتها الوطنية والدينية معًا.
الصهاينة العرب
وهؤلاء القوم من الخسَّة والنذالة بقدرٍ تعجز اللغة عن وصفهم، كأنهم المعنيون بقصد الخطاب في الأثر: “إذا لم تستح فافعل ما شئتَ”، إذْ إنَّك تراهم أقرب إلى الصهاينة من بعض اليهود أنفسهم، فهم إن شئتَ صهاينة العرب، وعتاولة الصهاينة أنفسهم، لأنهم تصهينوا على غير علمٍ وبلا منفعةٍ دائمة أو حقٍّ مقيم. وإن أعجب ما في هذه الفئة ذهاب حيائهم، وانكشاف وجههم القبيح بلا ستارٍ أو حجاب يتوارون خلفه، فهم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، وهم للباطل ألصق وللظلم أقرب. ومبلغ القول في هؤلاء أنهم لا خير فيهم يُرتجى، ولا عون منهم يؤمَّل، وإنَّما القول الحق فيهم، ضرورة فضحهم بين الناس وكشف عوراتهم، حتى يلفظهم المجتمع العربي، وينأى عنهم نأيه عن الأجرب المعدي بجربه.
تلك كانت “حالة” المعجزة الغزاوية كما تراءت لنا، وهذه هي الاستجابات التي تفاعلت معها في قوة إبهارها وعظمة تجليها، ولا تزال إشراقاتها الوضيئة تتجلى رغم فداحة الألم. ونحن إذْ سقناها إلى القارئ الكريم على هيئتها، فإنَّما سقناها استجابةً بليغةً منَّا للحدث الجلل الذي هزَّ العالم بأسره، وزعزع رؤاه، وبدَّل قناعاته الراسخة حِقَبًا مديدةً من الزمن، كما هي استجابة منَّا لنداء المثقف الذي يمثِّل ضمير أمته، ويضطلع بأمانة الموقف الإنساني، ويمتثل للقصد الأسنى من قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)” (الأحزاب).
مقالات ذات صلة:
العدو واحد .. فمن هو؟وما سبب تلك العداوة؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا