فن وأدب - مقالاتمقالات

رقصة الموت

تتعدد أسماء الرقصات في حياتنا، منها ما يكون في الأفراح والرومانسيات ومنها في الحفلات والمناسبات المتباينة، ومنها ما تكون للموت والهلاك، كالذباب الذي يذهب إلى الضوء راغبًا مختارًا فيلقى حتفه ومصيره، أو الرقص عندما يموت قريب أو صديق كما في بعض الدول الإفريقية عند تشييع موتاهم، فتقام مراسم خاصة بالدفن للتخفيف عن أهل الميت والتقليل من الحزن وصدمة الموت.

وقد رأينا رقصة الموت كذلك تتجسّد في لوحة رسمها الفنان الشهير “ميكائيل فولغيون” في سنة 1493، فالرغبة في الموت وكتابة النهاية كانت هاجسًا واتجاهًا في أوروبا في القرنين الخامس عشر وأوائل السادس عشر، نتيجة لانتشار المجاعات والطاعون والأمراض والحروب، مثل حرب المائة عام في فرنسا، ورُسِمت وتوثقت هذه الأيام والأحداث على الجدران مصحوبة بقصائد وأبيات من الشعر.

تُخبرنا رقصة الموت بالإيذان بالنهاية وإغلاق الستار، نهاية أي شيء: إنسان، حيوان، طائر، دابة، وتشير إلى حب الحياة والتعلُّق بها ومحاولة الهروب والتظاهر بالقوة والمقدرة على النفاذ إلى الأمور والسيطرة عليها.

وظهرت تحت مُسمّى رقصة الموت أعمال إبداعية مثل: رواية أحمد خالد توفيق رقصة الموت، والمسرحية السعودية رقصة الموت، أو رقصة الأهداف عند إحراز الأهداف لإظهار الفرح وإغاظة المنافس، أو رقصة الموت لانخفاض العُمْلة كما حدث في لبنان مع الليرة، أو أغاني وموسيقى تحت نفس المسمّى.

إنّ الموت حق ولا شك، بل هو الحقيقة الغائبة عن معظم الخلق، وحتى أحيانًا عن أصحاب العقول والنُّهى، ومن الخطأ الدعاء على النفس أو الآخرين به لضيق العيش أو لكَدِر صفو الحياة، ولا ينبغي استعجاله لِضرّ مَسّ الإنسان، فقد كرّمه ربه، وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في حياتنا وعالَم الأحياء نجد أنّ الذي أوشك على الموت ويكون مريضًا طريح الفراش مثلًا، ينشط ويشتد قبل موته بيوم أو يومين وتدبُّ فيه الحياة، فيأكل ويشرب وقد يقوم من سريره ويقف على قدميه ويمشي أو يحمل شيئًا معه، أو يتكلم مع شخص آخر في الهاتف بكل حماسة وتركيز، فنستغرب ونضرب كفًا بكف، ولهذا نقول: حلاوة روح وحب البقاء.

فالتعلُّق بالحياة مطلب لسيرها وإعمارها، ومن الخطأ أن يُعيره الإنسان كل أو جُلّ اهتمامه حتى لا ينسى الغرض الأساسي الذي خلقه الله له وهو عبادته وحده، فبذلك يكون التعلّق بعدم نسي النصيب من الدنيا أي الوسطية بعدم تركها بالكلية وعدم التمسُّك بها، والنظر إلى الآخرة فهي خير من الأولى وأبقى، فالعاقل هو الذي يأخذ من الدنيا ولا ينسى نصيبه منها، ويُقبِل على الآخرة ولا يغفل عنها.

حب الحياة والإقبال عليها ليس عيبًا أبدًا وليس فيه مشكلة، لكن لتكون جسرًا وقنطرة للعبور، نأخذ منها الزاد لإكمال الطريق وشحذ الهِمم، وأخْذ العِبرة من المُقصرين التائهين الذين شغلوا كل أوقاتهم وجوارحهم بالحياة كأنها نهاية المطاف وآخر الضوء في النَفَق، وهذا فهم خاطىء من المفاهيم التي ينبغي أن نُصححها.

فالتفاؤل ينبغي أن يُرافق الإنسان في حِلّه وترحاله ومنشطه ومكرهه، حتى لا يُصاب بالاكتئاب والانطواء والأمراض النفسية المختلفة، وفي هذا المقام نجد أنّ عبد الغني العطري، الصحفي والأديب السوري، يؤكد هذا المعنى ويشير إلى أنّ التفاؤل سرّ من أسرار النجاح في الحياة لا يُدرك كُنهه ومغزاه إلا الأقلُّون، إنّ المتفائل يستطيع أن يُقيل عثرته إذا ما وقع، لأنه لا ينطوي على نفسه نادبًا حظه باكيًا سوء طالِعه شاكيًا إلى الأقربين والأبعدين ما حلّ به، إنه يسقط لكنه لا يُضيّع وقته بالبكاء والندب على الماضي، بل يسارع إلى السير في ركب الحياة من جديد إلى أن يُعوّض ما خسر، حتى ولو لم يُعوّض ما فقد، فإنه يحاول.

مقالات ذات صلة:

كتاب الفلاسفة الموتى

ثقافة الموت

ماذا يحدث عند الموت

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر