فن وأدب - مقالاتمقالات

يا زمان الوصل بالأندلس

إن أخطِّئ لا أخطِّئ شعر الأندلس وشعراء الأندلس، فشعر الأندلس الشعر ذو البصمة الفنية التي تتفرد عن كل البصمات الفنية الأخرى لبقية الشعر العربي، وشعراء الأندلس الشعراء الذين طُوعت لهم الكلمات وعَذُبت لهم العبارات ورقت لهم الموسيقى وتوددت إليهم الطبيعة ودفئت لهم العاطفة وسُخّرت لهم البديهة، وينتظر شعرَهم المتلقون في كل عصر ومِصر انتظار الأهل أوبة ابنهم، ونحن نقرأ شعرهم ليمتعنا غاية المَتَاعة وينقلنا على جناح الخيال إلى بلاد الأندلس.

وما أدراك ما بلاد الأندلس؟! إنها جنة الله في أرضه، والخميلة الفاتنة المشتبكة الأفنان الوارفة الظلال، التي ترسل حفيفها نغماتٍ هوادئ تسكن بها النفوس الملتاعة وتنشرح به الصدور المكظومة، وهي الأنهار العذبة الثجاجة التي تروي كل ظامئ، وهي الشمس الساطعة التي تشع ضياءها ليشرق الكون كله، وهي النسيم العليل الذي يشفي ويبرئ، وهي العاطفة الحنونة التي تأخذ بقلوبنا إلى تاريخنا المجيد يوم أن كان العرب هم سكان هذه البلاد وفرسان عجاجها، ولولا محبة الأوطان ومحبة أهلها لوددنا أن نكون من أهل تلك الجنان.

إن تعجب فعجيب أمر شعر الأندلس، فمهما طال بنا الوقت في قراءته لا يعرف الملال إلينا طريقًا، وإن شئت عزيزي القارئ سبيل ذلك وآيته فهاك قولَ ابن خفاجة يصف طبيعة الأندلس:

يَأَهلَ أَندَلُسٍ لِلَّهِ دَرُّكُمُ                ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ

ما جَنَّةُ الخُلدِ إِلّا في دِيارِكُمُ        وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختارُ

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لاتَختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقرًا فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ

أرأيت عزيزي القارئ كيف يكون الشعر منسابًا إلى عاطفتك وعقلك بكل يسر وأريحية؟! حقًا وألف حق إنه ليتسرب إلى القلب، وإذا كان فكيف لا نلتذّ بابن زيدون وهو يتغزل في ولادة بنت المستكفي بشعره:

يا جَنَّةَ الخُلدِ أُبدِلنا بِسِدرَتِها        وَالكَوثَرِ العَذبِ زَقّومًا وَغِسلينا

كَأَنَّنا لَم نَبِت وَالوَصلُ ثالِثُنا           وَالسَعدُ قَد غَضَّ مِن أَجفانِ واشينا

إِن كانَ قَد عَزَّ في الدُنيا اللِقاءُ بِكُم في مَوقِفِ الحَشرِ نَلقاكُم وَتَلقونا

سِرّانِ في خاطِرِ الظَلماءِ يَكتُمُنا    حَتّى يَكادَ لِسانُ الصُبحِ يُفشينا

وكيف لا نطرب مع لسان الدين بن الخطيب وهو ينشد موشحه الشهير الجهير:

جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى       يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ

لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُما               في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ

وكيف لا نحزن مع ابن عبدون وهو يفجعنا ويدمي قلوبنا وعيوننا بقصيدته التي ندب بها بني مسلمة المشهورين ببني الأفطس:

الدَهرُ يُفجِعُ بَعدَ العَينِ بِالأَثَرِ         فَما البُكاءُ عَلى الأَشباحِ وَالصُوَرِ

أَنهاكَ أَنهاكَ لا آلوكَ مَوعِظَةً         عَن نَومَةٍ بَينَ ناب اللَيثِ وَالظُفرِ

فَالدَهرُ حَربٌ وَإِن أَبدى مُسالَمَةً   وَالبيضُ وَالسودُ مِثلُ البيضِ وَالسُمرِ

أقول ويحق لي أن أقول: إنه لشعر تسمو به الروح وتتأدب به العقول وتنساب به العاطفة، تقرأه فإذا أنت لست كقبلك، وأنت صديقي القارئ لا بد أنك تشعر بذلك، ولا غرو فهو عواطف صادقات نبعت من القلوب الشاعرة ودخلت في القلوب المتلقية دون تكلف أو تمحل، وهو مودات القلوب الصوادق ولذاذات النفوس الطوامح وشقشقات الألسن الطوالق، التي تأخذك من دنياك إلى دنياهم، ويصب من نفوسهم في نفسك، ومن إحساسهم في إحساسك، ومن معجمهم في معجمك، ومن أسلوبهم في أسلوبك، ومن بيانهم في بيانك، دون أن تعمد إلى ذلك أو تنتبه، ولتعلم أنه إذا لم يهززك هذا الشعر فنصيحتي إليك أن تقرأ على روحك الأدبية أم الكتاب.

وبعد، فإنها بحق بلاد الفردوس المفقود الذي ضاع من أيدي المسلمين بعد مكثهم فيها آمادًا طويلة وآجالًا متتابعة، وهي من الأماكن الشريفة العزيزة على قلوبنا، وأي مكان أعز على المسلمين والعرب من الأمكنة التي فُقدت بعد أن كانت محطة لمنارة الحضارة الإسلامية العربية التليدة، وشاهدًا على ظهور تلك الحضارة على كل الحضارات وقتئذ، وإننا مهما قلنا في وصفها فلن نفي عدتها من الوصف الذي يثير فينا من كوامن الذكريات ومرارة الفقد ما لا نطيقه، كما أننا مهما طال بنا الحديث عنها وعن جمالها ما استطعنا أن نعدد موائزها أو نحصي فواضلها وعلمائها.

لكن الأمل لا يزال حاضرًا في “غرناطة” آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ذاكم المكان التاريخي الذي ما زال يحمل سمات القومية الإسلامية العربية، ويقدم الغذاء الروحي للشخصية الإسلامية العربية هناك، وقد شاء الله تعالى أن يكون هذا المكان الذي شهد أفول الحضارة الإسلامية بعدما مكثت فيها ما يقارب سبعمائة عام، هو ذاته المكان الذي يشهد شروق هذه الحضارة مرة أخرى، فالمعاهدة التي أقامها الملك “عبد الله الصغير” –آخر ملوك المسلمين في غرناطة– مع الملك “فرناندو” والملكة “إيزابيلا” منذ خمسمائة عام قد أكدت حق المسلمين في الإبقاء على بيوتهم ومساجدهم، وعدم منعهم من إقامة شعائر دينهم، وحديثًا –ولله الحمد– قد نهض العرب هناك وانتهوا من بناء المجمع الإسلامي الكبير بغرناطة تحت اسم: “مسجد غرناطة”، وكان ذلك في العام الثاني بعد الألف الثاني من الميلاد، ليكون هذا المسجد مكانًا لإقامة الشعائر الدينية، وحديقة وقاعات للدرس والندوات العامة، التي يُشرَح فيها مبادئ الإسلام.

مقالات ذات صلة:

قصة الأندلس

الشعر والعِلم

الغزل العذري وتصحيح الصورة النمطية للعرب

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر