اللغز الغريب لـ”باي”!

من فجر الحضارة ومن ساعة ما البشر بدأوا يرفعوا عيونهم إلى السماء ويتفرجوا على النجوم، كنا دايمًا بنبحث في أصل الكون وسر تكوينه وبدايته، وواحدة من ضمن أهم السبل والأساسيات اللي اعتمد عليها كل الباحثين والعلماء على مر التاريخ في تصميم وإثبات نظرياتهم واكتشافاتهم، كانت حاجة مش ناس كتير بتتكلم عنها وعن غموضها غير المحدود، علم الرياضيات!

علم الرياضيات ولغة الأرقام يعتبر من أكتر الحاجات المذهلة الموجودة في الكون، ولحد النهاردا ما زال مليان ألغاز وحاجات كتير مجهولة للعلم البشري، محدش يعرف مين اخترع الرياضيات لحد النهاردا، ولا مين اللي ابتكر فكرة الأرقام واستعمالها كلغة وأساس لكل شيء بيدور في العالم الفيزيائي من حوالينا، كإنها مكانش ليها مبتكر ولا مخترع، وكلنا جينا للعالم لقيناها موجودة زي ما هي، وكل اللي كنا بنعمله من ساعة ما اتوجدنا على الكوكب دا، إننا بنكتشف قوانينها بس!

من ضمن الألغاز الغريبة والمجهولة لعلم الرياضيات، حقيقة إن في تماثل وترابط وعلاقة غريبة ومالهاش تفسير ما بين حاجات كتير موجودة في العالم الفيزيائي، اللي بنعيش فيه واللي بتكون منه كل حاجة حوالينا– وقيمة رياضية غامضة بيسموها ثابت الدائرة أو باي (Pai)، والترابط دا موجود في كل حاجة تقريبًا، لدرجة إنه موجود في أساسيات الكائنات الحية والطبيعة نفسها!

طب يا ترى إيه “باي” دي؟ وليه مهمة للدرجة دي؟ ومعناها إيه بالظبط؟!

دا اللي هنتكلم عنه النهاردا في مقال خاص وفريد من نوعه، فحضر كوباية الشاي الحلوة والنعناع في إيدك، وتعالى معايا في رحلة علمية جديدة هتختبر حدود استيعابك نفسه، وهتصدمك بحقائق عن الكون والطبيعة اللي حواليك، عمرك ما هتتخيلها.

يالا بينا..

ما هي قيمة باي؟

بص يا سيدي، في البداية، وعشان تفهم الكلام اللي جاي كويس، لازم أشرحلك الأول يعني إيه باي (Pai) دي أصلًا.

شوف يا صديقي، “باي” أو “ط” زي ما بنسميها بالعربي، بتعبر عن النسبة بين محيط أي دايرة ممكن ترسمها في العالم، إلى قطر نفس الدايرة دي، والنسبة دي بتساوي رقم معين وثابت قيمته بالتقريب 3.14159، وأصل التسمية بيرجع للعالم ويليام جيمس اللي كان أول واحد يستعمل حرف “باي” الإغريقي لوصف النسبة دي سنة 1707م.

بس الحقيقة إن تاريخ القيمة الرياضية الغامضة دي مبدأش في الوقت دا، بل بدأ قبل كدا بكتير جدًا!

طبعًا احنا دايمًا اتعودنا إننا نبدأ حكاياتنا ببداية الموضوع أو أصله، بس المشكلة إن العدد دا مالوش أصل ولا بداية، ولحد النهاردا محدش يعرف مين أول إنسان اكتشف إن النسبة بين محيط الدايرة وقطرها نسبة ثابتة!

بعض العلماء بيرجعوا أصل الاكتشاف دا للحضارات القديمة جدًا اللي بدأ معاها التاريخ البشري نفسه، عندك مثلًا الحضارة البابلية اللي عندنا دلائل تاريخية بتقول إنهم كانوا بيتعاملوا بنسب تقريبية لقيمة “باي”، وبيستعملوها في علوم البناء والهندسة المساحية، وعندك البابليين القدماء اللي كانوا بيستعملوا نسبة تقريبية قيمتها (25 \ 8)، واللي بتساوي تقريبًا 3.125.

كمان المصريين القدماء استعملوا النسبة (256 / 81)، واللي بتدي ناتج بيساوي تقريبًا (3.16049383)، ودي نسبة قريبة جدًا جدًا من نسبة “باي” الصحيحة اللي حسبها عالم الرياضيات والفيزياء الإغريقي صاحب قوانين الطفو المشهور “أرشميدس”، اللي عاش في اليونان في القرن التالت قبل الميلاد، واللي لسه لحد وقتنا هذا بنستعملها في كل حساباتنا!

عشان تبقى فاهم بس كويس، فالقيمة الرياضية اللي احنا قلناها دي مجرد النسبة ما بين محيط أي دايرة وقطرها، يعني دا مش رقم حقيقي وكامل، بل قيمة تقريبية، وعايزك تتخيل إن لحد النهاردا احنا منقدرش نعرف قيمة “باي” أو “ط” الحقيقية، مهما وصل علمنا وتقدمنا التكنولوجي!

اقرأ أيضاً: جسور التواصل بين الفلسفة والكيمياء

خصائص قيمة باي

الأغرب من كل دا، خصائص عدد باي دا نفسه، المبهرة لدرجة إنك ممكن تعتبرها خارقة للطبيعة!

أول حاجة، قيمة باي أو ط بيعتبرها علماء الرياضيات عدد حقيقي مش عدد كسري، طب يعني إيه يا عمدة؟! يعني العدد دا مينفعش يتكتب على شكل كسر أو بسط ومقام، وبمعنى أوضح، مفيش في الكون كله عددين صحيحين ينفع نقسمهم على بعض، ويدونا قيمة باي!

لو دا مش غريب بالنسبة لك، فخليني أقولك إن لسه الغرابة بتبدأ، وانت مشفتش حاجة!

باي كمان تعتبر عدد غير جبري، أو اللي بيطلق عليه علماء الرياضيات لقب “عدد متسام”، بمعنى إن أرقامه لا نهائية ومالهاش حدود ولا يمكن حصرها! ومش بس كدا، دي الأرقام اللا نهائية دي كلها مش بتشكل أي نوع من المتواليات أو الأنماط الرياضية! يعني أرقام قيمة باي كلها عشوائية ومش بتنتظم أو بتتكرر أبدًا!

في سنة 2013، بعض علماء الرياضيات حاولوا يحسبوا عدد أرقام باي باستخدام أحدث تكنولوجيا حاسوبية توصل إليها الإنسان، والنتيجة كانت إنهم وصلوا لعدد من الأرقام قدروه بأكتر من 12.1 تريليون رقم! وبردو لسه مش الرقم الكامل!

انت متخيل؟!

قيمة باي في الرياضيات

أنا عارف إن الموضوع صعب على الاستيعاب شوية، خصوصًا لأي حد مش دارس رياضيات أو مش بيحب الأرقام، بس خليني أسهلها عليك وأقولك إن العدد دا يعتبر أغرب عدد في علم الرياضيات بالكامل، عشان مليان ألغاز وخصائص مميزة مش موجودة في أي قيمة رياضية تانية تقريبًا.

مثلًا، في لغز مشهور جدًا في علم الهندسة المساحية، اسمه لغز “تربيع الدائرة” أو “مسألة تربيع الدائرة”، ودا يا سيدي عبارة عن تحدي إغريقي قديم جدًا، بيتحدى أي عالم رياضيات إنه يرسم مربع مساحته بتساوي نفس مساحة دايرة!

انت ممكن للوهلة الأولى تتخيل إن الموضوع سهل وإنك تقدر تعمله بصباع رجلك، بس الحقيقة إن الموضوع دا مستحيل تمامًا، وبالفعل برهنوا الاستحالة العلمية للتحدي دا سنة 1882! والسبب الرئيسي في دا ط أو باي!

طبعًا هتسألني ليه؟! هقولك إن في علم الهندسة، احنا منقدرش أصلًا نحسب مساحة أي دايرة حساب دقيق ونهائي!

أي حد درس رياضيات قبل كدا عارف إن مساحة أي دايرة بتساوي حاصل ضرب ط أو باي في مربع نصف قطر الدايرة دي، والمشكلة إن احنا قلنا قبل كدا إننا منعرفش قيمة باي الحقيقية، وإن اللي عندنا دا عدد تقريبي ولا نهائي ومالوش حدود، فإزاي واحنا أصلًا معندناش قيمة باي، نقدر نحسب مساحة الدايرة بدقة عشان نرسم مربع بنفس مساحتها؟!

فكر فيها كدا، احنا أصلًا معندناش قيمة باي النهائية، وبناءً على دا، فمفيش رقم ثابت نقدر نضربه في مربع نصف قطر الدايرة، عشان يطلعلنا رقم ثابت ونهائي بيعبر عن مساحة الدايرة، وبالتالي فاحنا معندناش أي وسيلة نحدد بيها المساحة اللي المفروض نرسم المربع بيها عشان يبقى متساوي مع مساحة الدايرة!

اقرأ أيضاً: فيزياء الصوت

قيمة باي في الفيزياء

فهمت ليه الموضوع مستحيل تمامًا بكل المقاييس العلمية؟!

المخيف بقى اللي ممكن يخلي دماغك تلف لو فكرت فيه، إن الخصائص المذهلة لقيمة باي مرتبطة بالطبيعة نفسها مباشرة، وموجودة في كل تفاصيلها، وبتظهر لنا في كل حتة حرفيًا!

مثلًا، باي موجودة في المسارات المتعرجة لأي نهر موجود على سطح الأرض، ودا عشان طول أي نهر رياضيًا بيساوي النسبة ما بين طول المسار المتعرج الحقيقي للمية، وطول الخط المستقيم ما بين نقطة بدايته ونهايته، والنسبة دي –اللي هي الطول على المسافة– هي هي بالظبط باي!

هتلاقي باي موجودة في شكل ثمار التفاح، وموجودة في الطريقة اللي بتنمو بيها الخلايا وأصداف البحر، وبتاخد بيها شكلها المميز!

لو بصيت على عمليات المحاكاة الرقمية على أي جهاز كمبيوتر خارق، هتلاقي إن باي موجودة في كل حاجة، ونقدر نستعملها في التنبؤ بأي احتمال تقريبًا، هتلاقيها موجودة في شكل موجات الضوء، ونقدر منها نتنبأ باللون اللي المفروض يظهر في قوس قزح، واللون اللي مستحيل يظهر، وهتلاقيها بردو موجودة في تكوين موجات الصوت، ونقدر لو استعملناها نتنبأ بالصوت اللي المفروض يصدر من أي آلة موسيقية!

حتى في قلب الكون البعيد والفضاء الواسع، هتلاقي باي موجودة في شكل انفجارات النجوم أو السوبر نوفا نفسها، وفي شكل السُدم النجمية وتكوينات المجرات والعناقيد المجرّية!

لغز القيمة باي

زمان كان في كاتب غربي قال مثال عبقري جدًا، قال إن التفكير في موضوع باي ولغزها دا، ومدى انتشارها في الطبيعة والواقع كله حوالينا، أشبه بإنك تكون واقف على قمة جبل، وتشوف قدامك ضباب مغطي كل حاجة على الأرض، بس من وسط الضباب دا هتلاقي طالعلك قمم جبال تانية غامضة ومجهولة بالنسبة لك تمامًا، وكل قمة فيهم موجود عليها علامة باي كبيرة شبه علامة الاستفهام!

محدش لحد النهاردا يقدر يفهم أو يستوعب حل اللغز دا، عشان احنا في الأول والآخر مجرد بشر ضعفاء، وعقولنا تعجز عن استيعاب الألغاز الكونية المذهلة دي، وعمرنا ما هنعرف نتخيلها من الأساس!

كل اللي بنعمله إننا بنحاول نحلل شكل الكون نفسه وتكوينه بنظرياتنا اللي بنستعمل فيها الرياضيات بمعادلاتها وحساباتها، وفاكرين إن كل المعادلات الرياضية دي احنا بنخترعها من الصفر، واحنا في الحقيقة بنكتشفها مش أكتر، عشان احنا أضعف من إننا نخترعها!

في النهاية، لو في حاجة واحدة بس احنا البشر عارفين ومتأكدين إنها لغز إلهي وكوني مالوش بداية ولا نهاية، وإن اللي اخترعها وصممها الإله بنفسه، فالحاجة دي هتبقى الرياضيات.

لغة الكون اللي بيتكلمها من ساعة ما بدأ، وهيفضل يتكلمها لحد نهاية عمره بعد تريليونات السنين، بعد ما ينتهي كل شيء.

اقرأ أيضاً: الرياضيات بين العقل والحس

مصادر:

https://www.exploratorium.edu/pi/history-of-pi

https://www.livescience.com/58249-surprising-facts-about-pi.html

https://www.newswise.com/articles/the-magic-and-mystery-of-pi

https://www.rd.com/list/pi-facts/

http://pistrategy.org/mystery-of-pi-2/

https://intuitivescienceblog.wordpress.com/2017/03/12/mystery-of-pi/

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا