أندلسيات .. الجزء التاسع
أتحدث اليوم عن الحيل التي لجأ إليها الموريسكيون لكي يتمكنوا من أداء شعائر الإسلام دون أن يكتشفهم أحد. كان الوضوء جريمة في نظر القانون، لكن الاستحمام لم يكن جريمة، لذلك كان الموريسكي يستحم في النهر بدلًا من أن يتوضأ.
كانت الصلاة “جريمة” أخرى، لذلك كان الموريسكي إذا أراد الصلاة، يصلي في بيته ويكلّف صديقًا بالوقوف في الشارع، لكي يحذّره إذا رأى قسيسًا قادمًا، وبالطبع كان من يقف في الشارع يدّعي أنه جاء لتحية صديقه وأنه يناديه لكي يخرج.
من الذي كان يعلم بالشهور القمرية، ومن ثم حلول شهر رمضان؟ موريسكيون قليلون. كيف كانوا يعلمون إخوانهم بحلول شهر رمضان (وبأخبار تخص الأمة الموريسكية: انتصارات الأتراك مثلا)؟ ابتكر الموريسكيون مهنة البغّالين، يعني استخدام البغال لنقل البضائع مقابل أجر.
كانت تلك المهنة مجرد غطاء لعمل سري، فالبغّال كان يتحرك بسهولة بين القرى ويحتك بالناس دون أن يعترضه أحد، ولذلك كان بإمكانه إبلاغ الناس بمقدم شهر رمضان، أو بأية أخبار تهم الموريسكيين. (سنرى لاحقًا كيف تمكّن البغّالون من إبلاغ الموريسكيين بموعد ثورة البشرات في سرية تامة بحيث فوجئ المسيحيون باندلاع الثورة).
في شهر رمضان كان على الموريسكي أن يستيقظ ليلًا لكي يتسحّر، وكانت هناك مشكلة في إيقاظ الناس، لكن أحدهم وجد الحل: سيكلّفون من يمر على بيوت الموريسكيين قبل الفجر بساعة، بحجة التحرك مبكرًا لرعي الأغنام، وإمعانًا في التخفي، اختاروا للقيام بالمهمة رجلًا مسيحيًا أبًا عن جد، وكلّفوه بإيقاظهم “لرعي الأغنام” مقابل أجر، وظل ذلك المسيحي يوقظ الموريسكيين، فيتسحرون ويؤدون صلاة الصبح، ثم يسوقون أغنامهم إلى حيث المراعي.
كانت هناك مشكلة أخرى في شهر رمضان: كيف سيبررون للجيران أنهم لا يتناولون طعام الغداء؟ بعض الأسر كانت تدّعي أنها ستبيت في الحقول لحراسة محاصيلها، وهكذا كانوا يمارسون حياتهم بحرية في الحقول، بعيدًا عن الرقابة، فيصومون، ثم يفطرون عند حلول المغرب، ويتسحرون قبل الفجر دون عائق.
أما الحج، وهذه هي المفاجأة (هل يظن أحد أن يسعى الموريسكيون إلى الحج في تلك الظروف؟)، فقد حددوا طريقًا يذهب الموريسكي منها إلى بيت الله الحرام ثم يعود، دون أن تفطن السلطات إلى وجهته. لم يستسلم الموريسكيون للظروف، بل ابتكروا الحيلة تلو الحيلة لكي يتمكنوا من أداء شعائر الإسلام، ثم راحوا يدعون الله أن يغفر لهم تقصيرهم. رحم الله الموريسكيين!
كان من الطبيعي أن تشتعل الثورة ضد نظام لا يقبل التفاوض، لا يقبل إلا الإذعان الكامل، لم يكن القانون يسمح بوجود غير الكاثوليك، أما من يدينون بغير الكاثوليكية فكان عليهم التخفي والصبر، انتظارًا لغد أفضل، أو أقل سوءًا.
الشعب الموريسكي كان قد فاض به الكيل، وكان ينتظر المنقذ، القائد الذي يتقدم المسيرة، أما القائد فكان ينتظر الفرصة المواتية، قال المؤرخون إن الموريسكي فيرناندو دي بالور كان أحد الوجهاء (كل مدينة كان بها 24 وجيهًا)، وكان من حقه –نظرًا لمكانته– أن يحمل السلاح (لم يكن من حق الموريسكي العادي أن يحمل السلاح بحكم القانون)، وفي يوم من الأيام أراد أن يدخل إحدى القاعات ومعه سلاحه، لكن الحارس أراد أن يجرده من السلاح حتى يسمح له بالدخول، فرفض فيرناندو أن يمتثل للأمر، وامتطى حصانه وقال للحارس “ستندمون”.
لا يستطيع عاقل واحد أن يتصور أن شعبًا بأكمله سيعلن الثورة لأنهم أرادوا تجريد فيرناندو من سلاحه، كانت أسباب الثورة موجودة، وكان الشعب ينتظر القائد، وكان القائد هو فيرناندو دي بالور الذي عاد أدراجه وأعلن أن الشعب الموريسكي لن يعيش في ذل واستكانة، وهكذا بدأت شرارة الثورة.
أما تحديد عدد الموريسكيين وأماكن إقامتهم، وإبلاغهم بساعة الصفر فقد تولى أمر ذلك كله البغّالون، كانوا يتحركون بين القرى ويحصون عدد الرجال القادرين على حمل السلاح، ولما تحدد يوم اندلاع الثورة تكفّل البغّالون بإبلاغ الموريسكيين بالموعد، في سرية تامة دون أن تفطن السلطات للاستعدادات.
البعض يود أن يكتب قصائد عصماء في ثورة البشرات، لكن من يريد استخلاص الدروس عليه أن يعود إلى الوثائق حتى لا يكتب من وحي خياله. الحقيقة المجردة تقول إن عدة آلاف من الموريسكيين لم يكن بمقدورهم أن يهددوا إمبراطورية إسبانيا الفتية، بل لم يكن بإمكانهم شن حرب طويلة ضد الدولة.
السّرية التامة جعلت من الممكن مفاجأة السلطات بالثورة، موقع البشرات الجغرافي هو الذي أطال أمد الحرب (قل مثل ذلك عن غرناطة التي تأخّر سقوطها عقودًا). أخيرًا جاء اليوم الذي أعلن فيه الموريسكيون صراحة أنهم مسلمون، وكان من الطبيعي أن يتخيروا من خصوصيات الإسلام أمرًا يختلف به عن غيره من الأديان، فراح الرجل منهم يتزوج باثنتين (ربما لنقص عدد الرجال مقارنة بعدد النساء)، أعلنت البشرات الثورة، واختارت فيرناندو دي بالور –الذي عاد إلى اسمه القديم: ابن أمية– ملكًا، ثم راح الثوار يجوبون القرى لكي تعلن الثورة وتنضم إلى المملكة الإسلامية الوليدة.
عندما أفاقت السلطات وحرّكت قواتها لقمع الثورة، حدثت المواجهة بين جيشين ينتمي كل واحد منهما إلى عصر مختلف، من حيث التسليح ومن حيث تنظيم الصفوف (قل مثل ذلك عن الحروب الأخيرة التي خاضتها غرناطة بني الأحمر، ودعك من الحديث عن خيانة أبي عبد الله الصغير).
بعض القرى تحمّست للثورة، يراودها الأمل في نصر بمثابة معجزة تخرق قوانين الطبيعة كلها، وكانت هناك قرى أخرى ترددت في الانضمام، ولسان حالها يقول ذلك البيت الشهير الحزين: “جئت متأخرًا يا زايد، ورجالك قليلون”. دخل كثير من المقاتلين الأتراك الحرب لمساعدة الموريسكيين، واستخدمت الدولة الإسبانية سلاح الحرب وسلاح الدعاية، فتقاتل المستضعفون لمصلحة القوة الظالمة، وانتهت الحرب نهاية منطقية، وعاد الموريسكيون منكسرين إلى قراهم، يتردد في آذانهم قول ذلك الشاعر المجهول “جئت متأخرًا يا زايد، ورجالك قليلون”.
أعود إلى موضوع الوثائق، صديقنا بونيس إيبارا ينشر محضر اجتماعات أحد المجالس البلدية في إسبانيا لكي يقف على تطورات الحرب في البشرات، المحضر دقيق إلى أقصى حد، يسجل كل شاردة وواردة، تشعر وأنت تقرأ الوثيقة كأنك تحضر الاجتماع المنعقد وتتابع الموقف في البشرات، أما نحن فلم نسجل شيئًا، والشيء القليل الذي سجّلناه اختفى من خزائن محفوظاتنا، أو باعه “أمين” المكتبة بدراهم معدودة لأمير خليجي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا