مقالات

الاعتزال العقلي

إن الناظر المتأمل في واقعنا وما يعتلي سطحه من مشكلات، لَيَرى في عمق هذا الركام الهائل من المشكلات عددًا من الأمراض التي تغذيها وتجعلها كل حين متجددة لا تنتهي، ومن هذه الأمراض التي تغذي مشكلات واقعنا داء عضال هو “الاستهتار” أو “الاستخفاف”، ذلك الذي صار يصبغ حياتنا العلمية والعملية بصورة شبه كاملة، فتراه غالبًا علينا على مستويي التفكير والتعبير، وكذلك على مستويي العمل والأحكام.

هذا الاستخفاف دفع الناس إلى موقف من ثلاث، الأول: أن يسلم المرء نفسه للقواعد والأصول محاولًا أن يحمل الوقائع عليها شاءت تلك الوقائع أم أبت.

الثاني: أن يخرج المرء منا عن الضوابط والأصول مدّعيًا الإبداع والتجديد، أي أنه يحاول أن يحمل القواعد على الوقائع.

الثالث: موقف يزعم أصحابه أنهم متوسطون بين هؤلاء وأولئك، وهم في الحقيقة ملفّقون لموقف يجمع جمعًا لا يخلو من تناقض بين موقف هذا وذاك.

هذا على مستوى الظاهر المعلن، أما على مستوى العمق فصاحب هذا الموقف التلفيقي في الحقيقة صاحب موقف من الموقفين السالفي الذكر، أي أنه خادع لغيره مرة ولنفسه أخرى، إذ إنه يستبدل بكدّ المواجهة والتفكير راحة الشعارات والتأخير، تلك الشعارات التي من قبيل: التراث والمعاصرة وغيرها، فهو موقف يقفز على الوقائع ويؤجلها، ولذلك لا ينفك صاحبه من عناء الصدمات، أو بعبارة موجزة: هو موقف خادع ومخدوع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه المواقف وإن اختلفت في ظاهرها فإنها في جوهرها تعكس منطقًا واحدًا: “منطق الاعتزال العقلي”، فصاحب كل موقف منها اعتزل عقله ولم يكلّفْه العودة بالواقع على القواعد، وبالقواعد على الواقع، بغية مزيد وعي لكل منهما في ضوء الآخر، ليكون الناتج وعيًا لا يكسر القاعدة، بل يبحث لها عن مزيد مرونة تؤهلها لاستيعاب الوقائع داخل القواعد والأصول.

هذه المرونة لا تتأتى إلا بمزيد عمل على جانبي قضيتنا المطروحة، وهما: الواقع والأصول تحليلًا وتركيبًا بغية التوفيق بينهما، فنحقق للواقع ما يصبو له من حرية، إذ إنه لا ينفك يأتي بالقضايا المستجدات التي إن لم تستوعب داخل إطار ينظمها فهي مهدّدِة –بكسر الدال– بانهيار الواقع ومن يعيش فيه.

ونضمن، في الوقت ذاته للقواعد والأصول ثمرتها، ألا وهي النظام الذي يجعل حرية الواقع حرية مضبوطة، حرية مسؤولة، حرية تنظم الاختلاف دون أن تلغيه، لأنها تتغذى منه في إبداع الجديد من الحلول، حرية تخضع لإطار يحميها من تشتت الفرقة والخلاف.

على هاتين الشعلتين، أعني مراعاة القواعد والوقائع، ينضج إبداع الحلول العلمية ويكتمل، وبتغليب الموقف الأول على الثاني يكون الاجترار الذي يثمر التقوقع في القديم والغفلة عن السياق المادي والتاريخي الجديد، الذي نعيش فيه على المستوى الخارجي.

وبتغليب الثاني على الأول يقع الارتجال الذي يثمر الارتماء في حضن “الآخر”، والغفلة عن السياق الثقافي والوجداني الذي يعيش فينا على المستوى الداخلي.

فأنت في الأمرين محاط بالغفلة السياقية والغربة النفسية، إلا أنها خارجية مادية في الاجترار، وداخلية وجدانية في الارتماء، وعليه فإن لم تحط هذه الرغبة الصائبة في المواكبة للجديد بحذر شديد يغريك أحيانًا بالتوقف، فستفسد من حيث تظن الإصلاح، فلا بديل لك عن الأخذ بالأمرين معًا إن رُمْتَ النجاة والإصلاح.

لهذا الداء العضال تاريخ طويل من الاستخفاف الذي بدأ يستشري شيئًا فشيئًا حتى عمّ وغلب، وجذر هذا الداء وأساسه إنما هو ضعف الأخلاق وغيابها، ذلك الذي يجعل المرء غير مستشعر لخطورة الكلمة وغير متحمل للتبعة والمسؤولية.

العجيب المحزن أن ترى بعض العلماء واقعين في هذا الداء، فيقف المرء متسائلًا: كيف يكون هذا وكتب أسلافنا التي يفترض أننا صرنا بها علماء لا تُعلِّم قارئها إلا الحيطة والحذر المصحوب بالرغبة في الكشف؟! تأملوا كتب الحواشي والتفسير، على سبيل المثال، لا تجد فيها إلا الاعتبار الكامل لكل دقيق وجليل، ذلك الاعتبار الذي يجعل المرء منا حذرًا متأملًا مستنبطًا، ليس في العلم فقط بل في كل شؤون حياته.

مقالات ذات صلة:

التفكير المستقيم

أوقات الأزمات وتجلي التفكير العلمي

التصور الفكري لدى المجتمعات العربية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض