عبد الفتاح الديدي.. فيلسوفًا ونفسانيًا وأديبًا وناقدًا وإنسانًا
كنت قد وصلت مسجد السيدة زينب مع العصر من عام 2019، وبقيت حتى بعد العشاء وأنا أستعد لإلقاء محاضرة ضمن احتفالات الهيئة العامة لقصور الثقافة بليالي رمضان الثقافية والفنية، بالحديقة الثقافية بالسيدة زينب حول كتاب “فلسفة المصادفة”، وذلك يوم السبت الموافق 25 مايو 2019 – الموافق 20 رمضان، لمؤلفه: الدكتور/ محمود أمين العالم، والكتاب في مجال فلسفة العلوم، هو في الأصل رسالة المؤلف لنيل درجة الماجستير في الفلسفة التي تمت مناقشتها عام 1953، وعنوانها الأصلي “نظرية المصادفة الموضوعية ودلالتها في الفلسفة الحديثة”.
لما وجدت نفسي قد وصلت مبكرًا عن المنظمين تجولت في الحديقة، فإذا بي أجد معرضًا للكتاب نظمته الهيئة، وكالعادة تجولت بداخله لأتابع الجديد من المنشورات فإذا بي بالمفاجأة التالية، إذ وجدت رواية مترجمة وعليها اسم أد.عبد الفتاح الديدي مترجمًا للرواية، فبسرعة تلقفتها يداي كأني على موعد مع أحد كنوزه، وعلى الفور أطل على ذاكرتي حديثه الشائق عن مجموعته القصصية الوحيدة التي صدرت له منذ زمن بعيد ونفدت من الأسواق، كانت بعنوان ” أوعية الألم” وقد ناقش فيها عددًا من قضايا الإنسان المعاصر.
من اللافت للنظر هنا أن ثمة تشابهًا بينه وبين أستاذه العقاد، فقد أصدر العقاد رواية واحدة هي “سارة”، وأصدر الديدي مجموعة قصصية واحدة هي “أوعية الألم”، كما ترجم رواية “امرأة في الثلاثين” تأليف أونريه دي بلزاك، التي صدرت للمرة الأولى عن دار المعارف بالقاهرة عام 1970، وتعتبر من كلاسيكيات الأدب الفرنسي.
يلفت الديدي إلى أن بلزاك ينتمي اجتماعيًا إلى الطبقات الوسطى، وهي الطبقات التي كان ينتمي إليها غالبية المثقفين، وقد حاول أهل بلزاك أن يدفعوا به إلى إحدى المهن القانونية، فقطع المرحلة الأولى من دراسة القانون، ثم عمل في مكتب محامٍ، ومكتب موثق عقود، لكن هذا العمل الرتيب ما كان ليرضي الفتى الطموح الذي كان يرقب من حوله مجتمعًا يمكن أن يرتقي فيه ضابط صغير من كورسيكا إلى عرش الإمبراطورية، ويصبح فيه تاجر صغير –بفضل المضاربة أو توريد المؤن للجيوش– من أصحاب الملايين، وترفع المغامرات السياسية بعض أصحاب القلم إلى مراكز الصدارة.
من ثم هجر بلزاك مهنة القانون، محاولًا تحقيق المجد من سبل أخرى، فجرب الصحافة والنشر والطباعة والعمليات المالية، لكن محاولاته كلها لم تورثه إلا الإخفاق والديون التي تراكمت عليه حتى وفاته.
كانت أعماله الأدبية الأولى أبعد ما تكون عن النجاح، لكنه عاد إلى الكتابة تحت إلحاح مزدوج من موهبته الطبيعية ومن حاجته إلى المال، فكان ينشر معظم أعماله في الصحف في شكل مسلسلات يقبض ثمنها مقدمًا.
يرى الديدي أن أول ما يلفت النظر في أدب بلزاك غزارة الإنتاج بشكل منقطع النظير، فقد كتب في نحو ربع قرن ما يزيد على تسعين رواية وقصة قصيرة ومسرحية. وفي السنوات الثلاث ما بين 1832 و1835 وحدها كتب عشرين مؤلفًا. وقد أحصى بعض المتخصصين في الدراسات البلزاكية الشخصيات المذكورة في رواياته، فوجد أن تلك الروايات تضم 2472 شخصية خيالية محددة بالاسم والمعالم، و566 شخصية مذكورة بالوظيفة فقط، فضلًا عن شخصيات تاريخية حقيقية عديدة.
لما كنت مهتمًا بالاطلاع خارج المقررات الدراسية كان من اليسير أن أتعرف على مجموعة من مؤلفات الفيلسوف المصري الأكبر أد.عبد الفتاح الديدي، وكانت متاحة دومًا في معرض الكتاب أو منافذ بيع الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكانت أسعارها في متناول أيدي أمثالنا من القراء رقيقي الحال أيام الشباب.
مرت سنوات قليلة جدًا لألتحق بآداب عين شمس قسم علم النفس، لدراسة السنة التمهيدية للماجستير في العام الدراسي 1994-1995، يوم أن كانت الدراسة عامًا ميلاديًا كاملًا يدرس الطالب 132 محاضرة سنويًا بواقع 3 ساعات لكل محاضرة.
كان من حسن حظي بل ومن آيات الكرم الإلهي لشخصي أن أدرس حينها على أيدي علامة القياس النفسي أد.لويس كامل مليكة، ذلك الذي ظننته قبل رؤيته غير موجود في الحياة، فهو لا بد أن يكون من ماضي علم النفس وتراثه في مصر لا من حاضره، وإذا برجل طاعن في السن ممشوق القوام به شبه من صورة جدي، وإذا به واقف على السبورة يكتب موضوعات المحاضرة والكل في صمت لا مثيل له، وتقف بجواره لمساعدته شابة من نفس عمرنا تقريبًا، نحن أغلب أعضاء تلك الدفعة الدراسية التي كانت 93 طالبًا وطالبة لم ينجح منها في نهاية السنة سوى 23 فقط، لكنها معينة بالقسم بوظيفة معيدة.
كانت تعاونه بجدية وحماس وتلقي علينا التعليمات التي لم يكن يلقيها علينا، وتيسر لنا فهم ما يستغلق علينا فهمه، كانت متواضعة مثله على الرغم من عملها معيدة، دمثة الخلق، لا تتكلف في شيء، معطاءة لكل من يريد حاجة، طيبة حسنة السيرة داخل القسم، انشغلت الدفعة بالحديث عنها وعن أستاذها وعلمنا في أحاديث أعضاء الدفعة أن اسمها “رشا الديدي” ذلك عام 1994، وقد صارت أستاذًا ورئيسًا لقسم علم النفس منذ سنوات، وسرعان ما عاد إلى ذاكرتي اسم الفيلسوف المصري أد.عبد الفتاح الديدي، وسألتها هل هناك علاقة قرابة معه فأخبرتني بأنه أبوها.
كان من اليسير أن أذكر بعض أعماله وهي كثيرة، وكنت يومذاك من الذين يحفظون للعقاد مكانة وجهدًا في تاريخ الأدب العربي، وأعرف كثيرًا عن حياته وأعماله، فأخبرتني بأن لأبيها كتابًا عن العقاد أو أكثر، منها كتاب “عبقرية العقاد”، وقالت لو تحب أن تكلمه هذا هو تليفون البيت، قبل ثورة الاتصالات وشيوع الهواتف المتحركة، وفعلًا اتصلت بسيادته، أول مرة في حياتي أتصل بأحد من أعلام الفكر والثقافة بعد الشيخ محمد الغزالي السقا.
كانت الحوارات طيبة ولطيفة وتنساب فيها المعلومات هادرة من ذاكرة فيلسوفنا الكبير، حتى عرجنا على علاقته بالعقاد ليخبرني ببعض منها، مثل حضوره ندوات العقاد في بيته وأصدقائه حينها أيام شباب فيلسوفنا، ولنصل إلى دنجوانية العقاد كما تجلت في رواية سارة –وهي الرواية الوحيدة التي كتبها العقاد– ليفاجئني الفيلسوف الكبير بأنه حين تعرف على العقاد كان العقاد شيخًا تجاوز مرحلة الشباب والدنجوانية، ولم يبد عليه أي أثر لها لا في سلوكه ولا في حديثه، وجرى الحديث عن سارة وقد تعرفوا عليها في الواقع، فأخبرني بأنها شخصية حقيقية واسمها “أليس داغر” بنت أخي المنتجة السينمائية اللبنانية آسيا داغر، منتجة فيلم صلاح الدين وأن العقاد هجرها نتيجة عدم وفائها له.
الدكتور عبد الفتاح الديدي من مواليد السويس عام 1925، التحق بمدرسة السويس الابتدائية حتى عام 1941، إذ انتقل في تلك الفترة إلى القاهرة بعد أن هاجرت الأسرة بسبب الغارات الجوية، التي تعرضت لها محافظة السويس في الحرب العالمية الثانية.
استقرت أسرته في شارع الملك (مصر والسودان حاليًا)، في القاهرة دخل مرتين الشعبة الثانوية وحصل على الشهادة التوجيهية عام 1944، التحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وتخرج عام 1946 في قسم الفلسفة، وأعد رسالة الماجستير في الوجودية والميتافيزيقا وكان يشرف على الرسالة الدكتور عبد الرحمن بدوي.
عُيّن مدرسًا للغة الفرنسية بمدرسة العريش الثانوية، ثم نُقل إلى السويس الثانوية عام 1948، كان له نشاط سياسي متميز، إذ التحق بالحزب السعدي سكرتيرًا للشباب، سافر إلى فرنسا عام 1954 للحصول على الدكتوراة بالسوربون، وهناك انضم إلى الحركات اليسارية العالمية، عاد عام 1964 إلى مصر تلبية لرغبة الدكتور ثروت عكاشة. التحق بجامعة الأزهر، ثم انتدب مديرًا بمكتب وزير الثقافة ثروت عكاشة آنذاك، الذي أسند إليه مسؤولية المدير الفني لمكتب الوزير.
كان من المعروف أنه من رواد ندوة عباس محمود العقاد ومن ألصق المقربين إليه. وتصادف أن يتوفى العقاد في نفس الشهر الذي عاد فيه الدكتور الديدي من باريس إلى مصر عام 1964، له عديد من المؤلفات الفلسفية ومن أشهر كتبه “عباس العقاد وعبقرياته” و”الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة”، وعديد من الكتب والدراسات والمقالات المنشورة في المجلات المتخصصة.
من أهم كتبه: الأسس المعنوية الأدب / فلسفة هيجل / فلسفة سارتر / القضايا المعاصرة في الفكر الفلسفي / مقدمة في المنطق الرمزي / أدبنا والاتجاهات العالمية.
كنت قد ناقشت في أواخر 1998 رسالتي للماجستير، وذات يوم اتجهت إلى قسم علم النفس بآداب عين شمس للبحث عن مراجع ودراسات للدكتوراة، وفي الطريق إلى مكتب رئيس القسم قابلت أد.رشا الديدي وكانت ناقشت الماجستير وتستعد لمناقشة الدكتوراة، وكانت ترتدي اللون الأسود على غير عادتها، فترددت في سؤالها، لكنها قرأت السؤال يتردد صداه في أعماقي فبادرتني قائلة: “بابا تعيش انت”، وأديت العزاء الواجب لها نحو الفيلسوف الكبير الذي عرفته وترحمت عليه، ثم قرأت لاحقًا مقالًا ضافيًا عنه رحمه الله، وقد صوب المقال كثيرًا من المعلومات التي وردت خاطئة في كثير من المقالات التي كتبت عن الفيلسوف الكبير، من قبيل تاريخ الميلاد والوفاة ورحلته في دول أوروبا وطبيعة الوظائف التي تقلدها. والآن أتركك عزيزي القارئ مع مقال أد. رشا الديدي عن والدها الفيلسوف الأكبر عبد الفتاح الديدي.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
فيلسوف بكل بساطة.. وإنسان إلى حد عظيم
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا