أسرة وطفل - مقالاتمقالات

التربية مهمة تحتاج إلى انتظار .. الجزء الثاني

يذكرون أن فتىً فعل جريمة منكرة، وحين أرادوا تنفيذ الحكم فيه، قال أحد الحاضرين: “عاقبوا والده الذي لم يربِّه التربية الصحيحة”. فما كان من الفتى إلا أن قال: “أبي ليس مذنبًا، فقد رباني، لكن أباه ما رباه”.

لقد أراد هذا الفتى من إجابته السابقة أن يقول لنا بأن والده بريء وأن الذنب ذنب جدّه، وبناء على ذلك فستقيّد تهمة الفشل في التربية “ضد مجهول”، لأن التسلسل لن ينتهي عند جدّ هذا الفتى بل سيتواصل إلى ما لا نهاية، وعندها تتفرق دماء التربية بين القبائل، ولن يكون هناك مذنب، وعليه، فسيكون الجميع ضحايا، وهذا هو ما يريد البعض أن يقولوه لك عندما تحدثهم عن المسؤولية التربوية.

في التربية نحن نتعامل مع أكثر من مجهول أو لغز، فالصغير الذي نربيه مخطوطة فريدة تحتاج إلى فك شفرتها المعقدة ورموزها الغامضة، الصغير عالم مجهول ولغز يحتاج إلى معرفة وحل، والمستقبل الذي نريد أن نربي هذا الصغير كي يعيش فيه مجهول بالنسبة إلينا، وهكذا نحن نربي الإنسان (ذلك المجهول) للمستقبل المجهول، ولهذا علينا التريث والتأني والتمهل، لأن أصابعنا كما يقال تحت الحَجَر، وعلينا سحبها ببَصَر، وعلينا أن نقلّص سقف الافتراضات الضبابية ونبني على بعض المعطيات التي اتضحت لنا بعض معالمها بخصوص هذا الكائن اللغز (الإنسان)، وهذا الزمن الآتي (المستقبل) الذي لا ندري ما الله منشئ فيه.

هناك من المربين من يريد أن يضغط سنوات التربية لمن يربيهم في أيام أو شهور على الأكثر، ويريد أن يطبق في ذلك عمل “القدور المضغوطة”، التي تساعد على إنضاج اللحم في أقصر مدة زمنية، وهذا غير متأتٍ في التربية، لأن تربية القدور المضغوطة، وتربية حرق المراحل، لن تكون مجدية، ولن يقطع بها المربي أرضًا ولن يبقي بها ظهرًا، وسيرهق نفسه ويزيد من يربيه رهقًا.

ألا ترى معي عزيزي القارئ أن الطفل قبل أن يخرج إلى الحياة، بقي في بطن أمه تسعة أشهر حتى اكتمل نضجه وخرج إلى الحياة؟ ولم نجد من يطالب بخروجه قبل هذه الفترة إلا لظروف قاهرة وخطرة على الأم، وجميعنا يدرك أن خروج هذا الجنين قبل اكتماله قد يعني موته المحقق، ولذا علينا كما انتظرنا تسعة أشهر حتى يخرج هذا الجنين إلى الحياة سليمًا معافى، أن ننتظر بصبر عدة سنوات قد تطول لتتجاوز 20 عامًا، ونحن نصقل هذه الشخصية ونهذبها ونشذبها، في عمل متواصل غير مشروط ودون مقابل إلا انتظار الأجر من الله سبحانه وتعالى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا كانت الحضارة لا تزدهر في شهر، فكذلك النتائج التربوية لا تتحقق في أيام، لأن هناك قوانين مضبوطة تتم مع كرّ الغداة ومرّ العشي. ومهما كان حرص المربي على إنضاج شخصية من يربيه، فلا بد من الصبر على سنن الله التي وضعها الله في الأنفس والآفاق، ومصدرُ هذا الصبر والجلد اليقينُ بأن الطريق الذي نسير عليه يؤدي إلى الهدف الذي نسعى إليه.

في التربية الصبر صبران، وفق تعبير الدكتور عبد الكريم بكار: صبر سلبي وصبر إيجابي. معظم الناس يفهمون الصبر في جانبه السلبي، وهو الذي يعني انتظار الطفل حتى يكبر ويعقل ويهدأ، وهذا ليس صبرًا بل نوع من الإهمال. الصبر المطلوب الصبر الإيجابي الذي يعني تفهمنا لصعوبة ترسيخ المفاهيم والأخلاق في شخصيات الأطفال وسلوكياتهم دفعة واحدة، وأن ذلك يحتاج إلى جهد ومحاولة وإلى زمن.

إن لزوم الصبر دون مراجعة للأخطاء قد يجعل المصابرة نوعًا من التغطية على النتائج السيئة واحتمال العناء دون مبرر، هناك شيء اسمه الصبر الإيجابي وهو يعني تفهم الظروف الصعبة والتكيف معها مع العمل الجاد على التخلص منها.

الناس يحبون امتداح الصبر، ويدّعون أنهم يتحلون به، لكن بعضهم يخلط أحيانًا حين يعتقد أن الصبر محض الانتظار، أن تنتظر ريثما تتغير الأحوال، وأنا لا أراه كذلك (والكلام للأستاذ أسعد طه)، وإلا لادّعى المسجونون مثلًا الصبر على بليتهم إلى حين خروجهم من سجنهم، والحقيقة أنهم كانوا مجبَرين على الانتظار نتيجة الأحكام الصادرة في حقهم، والأمر يعتمد على مشاعرهم وسلوكهم وهم ينتظرون.

الشكّاء المتذمر، ليس بصابر، ذلك المستاء والغاضب على الدوام ليس بصابر، الصبر يبدأ عند الرضا، يبدأ عند تقبل الواقع وتفهمه والتأقلم معه، ثم العمل على تغييره دون كلل أو ملل، الصبر: العمل وسط ظروف صعبة وبائسة أحيانًا بنفس راضية موقنة بما هو آتٍ.

إن المستعجلين لا يصبرون على العمل للوصول إلى العواقب المؤجلة التي تحتاج إلى مدى زمني بعيد، وحب العاجلة أمر مسيطر على البشر، والصبر على النتائج البعيدة المؤجلة يحتاج إلى نوع من الوعي يختلف عن الوعي النوعي الذي لم ينتبه إليه الذين لا يراقبون الأحداث إلا قليلًا، وقد انتبه إلى هذا ابن المقفع، وجعل من أمارة صحة العقل درك الأمور بعواقبها، والناس يتساوون في حب ما يوافقهم ويعززهم إيجابيًا، وكراهية ما يضرهم ويعززهم سلبيًا، لكنهم يتفاوتون في الصبر على النتائج المؤجلة، وهذا هو الفرق بين العجز والكَيَس. وهذا الأمر أوضح ما يكون في التربية، لطول فترة معالجتها، وتأخر نتائجها وعواقبها.

من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعًا كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن شيئًا، لكن إذا قلنا: ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها في سنوات قادمة؟ فسوف نرى أننا نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدًا، كأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها.

هذه نصيحة عابرة للزمن قالها أحد الحكماء مخاطبًا ابنه الذي رأى أنه حاد عن طريق النبلاء:

أفكلما اشتهيت اشتريت؟ فمتى تتعلم الصبر؟

أفكلما خلوت عصيت؟ فمتى تتعلم التقوى؟

أفكلما تعبت استرحت؟ فمتى تتعلم المقاومة؟

أفكلما يسر الله لك تماديت؟ فمتى تبدأ التوبة؟

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

عملية التربية بين الرب والإنسان وقداسة من يحملها

ما المقصود بالتربية؟ وما هو تأثير القدوة؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.