مقالات

جسور التواصل بين الفلسفة والكيمياء .. الجزء الأول

إنها لقصيدة تواصل، بل إنها لقديمة المطلع والعنوان، نَظَم أبياتها الأولى فلاسفة اليونان حين شغلتهم أسرار الوجود، فراحوا يبحثون عن مبدأ أول لتشكيلات الكون وروابطه، جوهر أول به تبدأ الأشياء وينتظم بناؤها، وإليه تنتهي حين تنخر في قوامها تأثيرات الزمان المتدفق قسرًا بلا خيار، أنموذج أول يعكس رد فعل العقل البشري تجاه تحولات الطبيعة وثراء أشكالها، وتلك ببساطة هي الفكرة الأساسية التي سارت على هديها الكيمياء عبر دروب تاريخها الطويل ومنحنياته: البحث عن اللبنات الأولى للمادة، واستكناه خرائط روابطها وعوامل انفكاكاتها. حقًا لقد كانت هناك إرهاصات كيميائية لدى شعوب ما قبل العصر اليوناني وحضاراته، لا سيما حضارات مصر الفرعونية وبلاد ما بين النهرين، لكنها جميعًا لا تخرج عن كونها وصفات وممارسات عملية ينقصها الوعي النسقي بالكيمياء علمًا. فإذا كان ذلك كذلك أمكننا إذًا وصف البداية الأولى للكيمياء بأنها فلسفية المنشأ، إغريقية الطابع، وإن تلونت بألوان شتى، وأثمرت في أراضٍ متباعدة.

من جهة أخرى لا يتنافى ذلك الوصف مع حقيقة أن جسور التواصل بين الفلسفة والكيمياء لم تكن قائمة قبل بضعة عقود خلت، ذلك أن إشارتنا إلى النشأة الفلسفية للكيمياء لا تعني –أو تهدف إلى– القول بأنها وُلدت متكاملة الشخصية، ذات هوية علمية مستقلة، بحيث يمكن أن تكون لها تفاعلات متبادلة والفكر الفلسفي، بل إن مغزاها يكمن في الدلالة على أن الكيمياء –شأنها في ذلك شأن كل علوم الطبيعة– لم تكن في أطوارها الأولى سوى نشاطًا فكريًا مشمولًا برعاية الفلسفة، أو فلنقل متحدًا بالفلسفة، فما أن شبت الابنة عن الطوق واتضحت معالم هويتها حتى خلعت عباءة الفلسفة وتدثرت بدثار التجريب، لتبدأ بذلك فترة قطيعة ممتدة حتى أواخر القرن العشرين.

أما الفلسفة فربما كانت أكبر سقطة في تاريخها –فيما يشير البيولوجي الألماني إرنست ماير (E. Mayer 1904 – 2005)– أنها اتخذت من الفيزياء أنموذجًا للعلم، ونتيجة لذلك أصبح ما يُسمى “فلسفة العلم” مجرد فلسفة للعلوم الفيزيائية! وهو أمرٌ لم يُتَدارك إلا حين برزت نتائج العلوم الأخرى لتناطح نتائج الفيزياء في تأثيراتها، وتهدد من ثم مكانة الابنة الكبرى المدللة في قلب الفلسفة.

الحق أن أبرز ما نلاحظه حين نستعرض إحصاءً كاملًا –أو شبه كامل– لمنشورات فلسفة العلم منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، أنه على حين توجد عدة عشرات من الآلاف من المساهمات في المشكلات الفلسفية للفيزياء، وكذلك –في مرحلة متأخرة– في تناول المنطلقات والانعكاسات الفلسفية للبيولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وعلم الإدراك (Cognition science)، أو علم النفس، فإن عدد الأعمال المناظرة التي تخص الكيمياء لا يتعدى كسرًا صغيرًا منها، وهو عدد لا يتناسب بالطبع مع علم له تأثيراته الملموسة –المباشرة وغير المباشرة– في التطور الحضاري للإنسان، وله أقسامه المنتشرة في الجامعات ومراكز البحث العلمي منذ زمن طويل، وله فوق ذلك مشكلاته المؤكدة التي قد لا ينتبه إليها أو يسعى إلى حلها سوى الفلاسفة! فما تُراها تلك الأسباب التي أدت إلى هذا الإهمال الفلسفي للكيمياء، أو الإهمال الكيميائي للفلسفة، بغض النظر عن النشاط الجدي الظاهر في العقود القليلة الأخيرة؟

ربما كان أحد هذه الأسباب اعتقاد الكيميائيين أنفسهم بأنهم أناسٌ عمليون لأقصى درجة، يهيمون بنوع من الواقعية العلميـة (Scientific realism) تُعزى بمقتضاه موضوعات البحث الكيميائي –مثل الجزيئات، والذرات، والبنى الإلكترونية، إلخ– إلى حالة الأجزاء المُكوَّنة حقًا لعالمنا الفعلي، وهو ما لا يتسق والرؤى الفلسفية الغارقة في تعميمات وافتراضات مُسبقة مبعثها العقل الخالص. وبعبارة أخرى، يشعر الكيميائيون –نتيجة لاشتغالهم بعالم الظاهر واعتقادهم بواقعيته– بأنهم بعيدون تمامًا عن تلك الدعاوى الميتافيزيقية الغامضة التي ينطق بها الفلاسفة تقريرًا لما ينبغي أن تكون عليه حالة العالم، فما يعنيهم فقط التجريب، وثمار هذا التجريب أو مردوداته النفعية. يُعبر عن ذلك الكيميائي الأمريكي ترومان شوارتز (Truman Schwartz) فيقول: “من المؤكد أننا لسنا مؤهلين للنظر الفلسفي، فنحن جماعة براجماتية إلى حدٍ ما، ولقد ثبت أن براجماتيتنا هذه مثمرة، فعلى حين يتعامل الفيزيائيون مع الطبيعة النهائية للمادة وأصل الكون، وعلى حين يتأمل البيولوجيون تساؤلات من قبيل: ما هي الحياة وكيف بدأت؟ فإن الكيميائيين –على العكس من ذلك– لا ينشغلون إلا بنواتج بحوثهم. إن كثرةً منا لا يتمعنون في الحالة الأنطولوجية للمركب الذي يحاولون تركيبه، ولا يأبهون بالافتراضات الإبستمولوجية الملازمة لبرنامج الحاسب الآلي الذي يستخدمونه لنمذجة البنى الجزيئية”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من جهة ثانية، ثمة زعمٌ متكرر غالبًا ما نجده في مداخل الكتب التعليمية للكيمياء (Textbooks)، لا سيما القديمة منها، مؤداه أن الكيمياء إحدى أقدم المشروعات الإنسانية، إن لم تكن المشروع الأقدم على الإطلاق، ذلك أن كل التغييرات في العالم المادي إنما تحوي بطريقة أو بأخرى عمليات كيميائية. ولما كانت هذه الأخيرة تُفسَّر بالإحالة إلى ظواهر تبدو واضحة لكلٍ منا في حياته اليومية، فإن العلاج الفلسفي لما هو واضح يغدو بالضرورة مجرد نافلة.

من جهة ثالثة، على الرغم من أن اثنين من أعظم فلاسفة العلم تأثيرًا، الفرنسي – البولندي المولد إميل مايرسون (Émile Meyerson 1859 – 1933)، والفرنسي جاستون باشلار (Gaston Bachelard 1884 – 1962)– كانا من جملة علماء الكيمياء المتمرسين، إلا أنهما فيما يبدو قد تأثرا بوجهة النظر السائدة وقتئذ في دوائر البحث الفلسفي، تلك القائلة بأن الكيمياء ليست تُربة خصبة لازدهار التساؤلات التقليدية في الفلسفة! ربما كان ذلك لأنه في مقابل الفيزياء والبيولوجيا، اللتان –مع تطور نظرية النسبية، وميكانيكا الكمّ، ونظرية التطور، وعلم الجينات– خطأتا هامشية الخيال الإنساني، وزعزعتا الرؤى التقليدية حول الكون وموضع الإنسان فيه، فإن الكيمياء –عبر الفترة التاريخية لنموها علمًا– لم تسهم في الإجابة عن أية تساؤلات كوزمولوجية (Cosmological) أو لاهوتية (Theological) أو وجودية (Existential)، لكنها كانت بالأحرى مشغولة بتقديم تقنيات ومواد ومناهج تزيد من ثراء بعض الأمم، وترتفع بمستوى المعيشة لشعوبها، بل والأكثر من ذلك، لم تأبه بما نثرته من بذور لمشكلات بيئية واجتماعية تعاني منها الأجيال التالية. معنى ذلك بتعبير آخر، أن الكيمياء لا تملك أفكارًا كبيرة (Big ideas) يمكن مقارنتها مثلًا بالنسبية وميكانيكا الكوانتم في الفيزياء، أو بنظرية تشارلز داروين (Charles Darwin 1809 – 1882) في البيولوجيا، الأمر الذي يعني أنها فقيرة فلسفيًا!

هناك رابعًا الزعم القائل بأن النظريات الكيميائية يمكن –بل ويجب– أن تُردّ إلى نظريات فيزيائية، وأن كل التساؤلات الفلسفية التي قد ترتبط بها من الممكن أن تُعاد صياغتها كونها تساؤلات لفلسفة الفيزياء، وذلك زعمٌ ترسَّخ منذ أوائل القرن العشرين، وبالتحديد منذ أن ظهرت ميكانيكا الكوانتم وتم في كنفها رسم أول نموذج مقبول لبنية الذرة، وهو ما عبّر عنه فيرنر هيزنبرج قائلًا: “لعل الكيمياء أقرب جيران الفيزياء. والواقع أن هذين العِلمين قد وصلا عن طريق نظرية الكوانتم إلى اتحاد كامل، لكنهما كانا منفصلين كثيرًا منذ مائة عام. كان منهجاهما في البحث مختلفين تمامًا. ولم يكن لمفاهيم الكيمياء في ذلك الوقت ما يناظرها في الفيزياء. فالتكافؤ والفاعلية والقابلية للذوبان والتطايرية مفاهيم ذات خصائص تغلب عليها الوصفية. وكان من الصعب إدراج الكيمياء بين العلوم المضبوطة. وعندما طُورت نظرية الحرارة بدأ العلماء في تطبيقها على العمليات الكيميائية. ومنذ ذلك الحين أصبح البحث العلمي في هذا المجال وقد حكمه الأمل في اختزال قوانين الكيمياء إلى ميكانيكا الذرات. على أنه من الواجب أن نؤكد أن هذا لم يكن ممكنًا داخل هيكل الميكانيكا النيوتونية، فلكي نصل إلى وصفٍ كميّ لقوانين الكيمياء، علينا أن نصوغ نظامًا من المفاهيم أرحب للفيزياء الذرية. ولقد أنجزت نظرية الكوانتم هذا في نهاية المطاف، وهي النظرية التي تتجذر في الكيمياء مثلما تتجذر في الفيزياء الذرية”.

هكذا، فإذا كانت نظرية الكوانتم نظرية فيزيائية في المقام الأول، وكانت في الوقت ذاته منطلقًا أساسيًا لقوانين الكيمياء ونظرياتها، فمن الطبيعي أن تكون علاقة الكيمياء بالفيزياء علاقة الجزء بالكل، إن لم تكن علاقة تبعية، وفي ثراء الكل وشموليته ما يغني البحث الفلسفي عن التطرق لفتات الجزء!

سببٌ خامس وأخير من أسباب التجاهل الفلسفي للكيمياء كونه علمًا مستقلًا، يتمثل في تلك الحجة القائلة بأن هذا العلم يفتقر إلى النقاط التحولية الدراماتيكية أو الأزمات (Crises)، التي وسمت تطور الفيزياء في أواخر القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، الأمر الذي يعني أن تاريخ الكيمياء لا يرقى إلى كونه نموذجًا جاذبًا للبحث الفلسفي، يمكن عن طريقه وصف بنية التطور العلمي، سواء من حيث المنهج أو من حيث طبيعة المعرفة العلمية ومضمونها!

مقالات ذات صلة:

عصر جديد

عن أصل الفلسفة أتحدث

كيفية كتابة البحث العلمي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية