أدب الرحلة
الإنسان اجتماعي بالفطرة مدني بالطبع، يحب الاجتماع وينفر من العزلة، بيد أنه في الوقت ذاته يهوى التنقل، ومن ثم فإنه دائمًا وأبدًا ما يميل إلى الاستشكاف ويروم كثرة النظر، ويحب الارتياد ويسأم من الإقامة الدائمة، ومن هنا فقد دأب ومنذ أزمنة سحيقة على الأسفار، له في ذلك أغراض ومشارب، وأهداف ومآرب، ربما يفعل ذلك بحثًا عن متطلبات الحياة وضروريات العيش، كما فعل أسلافنا العرب الجاهليون في رحلاتهم من أجل الكلأ والماء، وربما للتجارة كما في رحلتي الشتاء والصيف، التي أشار إليهما القرآن الكريم في سورة قريش: “لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)”.
هناك من يسافر لأغراض أخرى، وأسباب متباينة، ومبررات مختلفة، فلكل وجهة هو موليها، ومن ثم وجدنا من يمم وجهه خارج بلاده للعلاج أو الاستشفاء، وهناك من يرحل للسياحة وارتياد مجاهل جديدة، واستكشاف آفاق متباينة وعوالم محتلفة، يجد في ذلك طلبته، ويرى فيها بغيته، وهناك من يرحل طلبًا للعلم والمعرفة والاستزادة، أو الثقافة بمفهومها الشامل، وهذا ما وجدناه في البعثات العلمية أو المنح الدراسية، أو الإرساليات مثل التي رأيناها في القرن التاسع عشر أيام محمد علي باشا، حتى يومنا هذا، وإن خفت وتيرتها، وانطفى رونقها الآن نتيجة لأسباب كثيرة يصعب ذكرها والحديث عنها في هذا المقام.
هكذا يتوق الإنسان دائمًا وأبدًا إلى السفر، ويمل من الإقامة والتقيد بمكان واحد لا يريمه، يتجه إذن إلى السفر والارتحال وليس القرار والاستقرار، لما فيه من المكانة والفوائد، ولما ينطوي عليه من الأهمية والعوائد، ولعل الإمام الشافعي (ت 204 هـ)، رحمه الله، قد أوجز تلكم الفوائد في قوله من البسيط:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضًا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت ركود الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا افتراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لَمَلَّهَا الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب
فإن تغرب هذا عز مطلبه وإن تغرب ذاك عز كالذهب
إذا كان الإنسان لا يكل ولا يمل من كثرة الأسفار ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فإن من هؤلاء الرَّحَّالين من أوتي من حدة البصر، ومن قوة البصيرة، ناهيك عن مقدرة خاصة في النظر وتحليل المرئيات واستنباط العبر، إضافة إلى قلم أديب وقلب أريب ما يجعله يقوم بتدوين هذي الرحلات، وتقييد ما يراه منذ بداية الرحلة إلى خاتمتها، من حيث الجغرافيا والمكان والزمان والتنقل والبشر والعادات والتقاليد والأعراف، بل الحياة، كل الحياة بكل أنماطها وكافة أشكالها وتفصيلاتها اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، وذلك حسب كل رحَّالة وقدرته على العرض والتذكر من ناحية والتحليل والاستنباط من ناحية أخرى، ولعل هذا ما أطلق عليه أدب الرحلة، أو أدب الرحلات، ولعلنا في هذا الشأن نتذكر أهم هذي الرحلات في الأدب العربي من مثل رحلة ابن جُبَيْر، ورحلة ابن بَطُوْطَة، والتعريف بابن خلدون شرقًا وغربًا، وتخليص الإبريز في تلخيص باريز لرفاعة الطهطاوي.
أدب الرحلة إذًا كما يقول المؤلف يطلق على “نوع من الأدب يقوم فيه المؤلف برحلة إلى خارج وطنه، فيسجل بقلمه ما شاهده وما سمعه، وهو في الحقيقة يسجل انطباعه عن الرحلة، ويكون هذا من قبيل مشاركة قرائه لتجربته الخاصة، وكما أن المَشاهد والمسامع تركت أثرًا في المؤلف دفعه للكتابة، فإن سجل الرحلة أيضًا يترك أثرًا في نفس قارئها تذوقًا لها، واستمتاعًا بها”.
مقالات ذات صلة:
يوميات بني مجد .. السفر إلى القاهرة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا