أسرة وطفل - مقالاتمقالات

التربية مهمة تحتاج إلى انتظار .. الجزء الأول

دخل الطفل على أمه وهو في حالة من الهلع، مخاطبًا إياها بصوت مرتفع: “ماما.. ماما لقد رأيت في المطبخ فأرًا كالفيل!”. فنهرته الأم قائلة له: “ألم أخبرك مليون مرّة ألا تبالغ؟!”.

يا ترى من أين تعلم هذا الصغير هذه المبالغة، حتى يشبّه الفأر بالفيل؟ أظن أنه تعلم هذه المبالغة من أمه التي لم تتورع أن تقول له وهي في حالة لا وعي أنها قد حذرته مليون مرة من المبالغة، وعليه ففيل الصغير جاء من مليون الأم، قبل أن يأتي من مخيلة هذا الصغير. إن المجازفة برمي الكلام بين يدي الصغار له خطورة كبيرة لا تحمد عقباها، والأصل أن نزن ما نقول لنحافظ على عقلية متزنة لمن نربيهم، وإلا فلا نلوم إلا أنفسنا إذا سمعنا من المبالغات ما لا يخطر لنا على بال، فالفيل أخو المليون لمن يفهم.

كم نردد على أبنائنا عندما يتكرر منهم الخطأ أو المخالفة تلك العبارة، التي أصبحت عند البعض لازمة من اللوازم “اسمع يا بني وافهم، كلمة وعشر سواء”، وفي ظننا أننا بعد قولنا ذلك أن المشكلة قد حُلت، وأن الخطأ لن يتكرر، وقد أعذر من أنذر، ولذلك عندما يتكرر الخطأ من الطفل لا يتورع البعض عن مد اليد أو الرجل أو العصا على الطفل، وفي أحسن الأحوال قد يتلقى الطفل سيلًا من التوبيخ والشتائم القديمة والجديدة، والحجة التي يستند إليها المربي في هذه الحالة هي أنه قد حذّر وأنذر، ونبه ووجه، واللوم كل اللوم على هذا الصغير الذي لم يتعلم الدرس.

أهمية الصبر والاستمرار في تربية الأبناء

إنّ مَن لم يتحلَّ بفضيلة الصبر وسعة الصدر فحظه من التربية الرشيدة قليل جدًا، إن لم يكن معدومًا، وكيف تكون هناك تربية لأولئك الذين تثور ثائرتهم لأتفه الأسباب، وتتعكر أمزجتهم لأقل خطأ أو تقصير، وتتغير طباعهم إلى الأسوأ عند أدنى قصور، ويمكن أن يعلنوها حربًا شعواء لا تبقي ولا تذر، ولا يدركون فداحة ما قاموا به إلا بعد أن تهدأ العاصفة، هذا إن كان هناك بقية باقية من عقل، وإلا فإن البعض يعتبر أن ما قام به بطولة يستحق عليها وسامًا من الدرجة الأولى.

التربية تعتبر من الصناعات الثقيلة، وتعدّ استراتيجية مستقبلية لأي بلد يريد أن يتطلع إلى مستقبل مشرق، وذلك لأن نتائجها لا تظهر إلا بعد سنوات طويلة، قد تتجاوز 20 عامًا، وهذه الفترة في حدّ ذاتها كفيلة بزرع اليأس في قلوب المستعجلين ومن يريدون وضع البذور في الصباح والحصول على ثمارها في المساء، أو في اليوم التالي على أبعد تقدير، أما من يدركون طبيعة التربية، فإنهم على بيّنة من أمرهم، إنهم يدركون أن طفولة الإنسان تعتبر أطول طفولة مقارنة مع أي كائن على هذا الكوكب، وهذا يحمِّلهم مسؤولية كبيرة تتطلب منهم الصبر والمصابرة والهدوء والانتظار مع الرعاية والتوجيه والإرشاد، إن التربية عمل على “نار هادئة” –كما يقولون– حتى تستوي شخصية هذا الصغير على سوقها، وطول الفترة من جانب آخر يعطي المربي فسحة من الوقت ليواصل بناء الشخصية على مهل، ويعيد النظر فيها مرّة بعد مرّة، فيتدارك المعوج ويشذب النافر من الأخلاق والسلوك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيفية الصبر على الأبناء

الصبر والاستمرار في تربية الأبناء

إن المربي يصنع إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويبني أساسات شخصية متميزة، ويرعى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكم ستكون فرحته، بل كم سيكون اغتباطه بالأجر الكبير من ربه عندما يرى أمامه إنسانًا صُنع على عين الله، وبناء أُقيم على منهج الله، وشجرة طيبة عملاقة تشبه في مضامينها الكلمة الطيبة، التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى بوابة للدخول في دين الإسلام.

الحقيقة أنه لا شيء بلا مقابل، فالصبر ليس سهلًا لكنه في الوقت ذاته ليس مستحيلًا، والحقيقة أيضًا أننا في حاجة لتدريب أنفسنا عليه، تمامًا مثل أي أمر آخر نتدرب عليه، فالتربية نوع من الحرب الدائمة على كل أشكال الانحراف والتبلد والقصور الذاتي، كما أنها (أي التربية) كالحرب تحتاج إلى الرجل المكِّيث المتأني الذي يملك فضيلة الصبر على بذل الجهد المستمر، مع التطلع إلى الفرص المواتية.

التربية جهود مستمرة

إن لكل مرحلة عمرية درجة من النضج يصعب تجاوزها، كما أن لها مشكلات لا يمكن حلها إلا على نحو جزئي، ولذا فإن العجلة هي العدو الأول للتربية، وهناك جوانب عديدة في شخصيتنا، لا ينضجها إلا الزمن. ولأن عنصر المرونة في الإنسان ليس مكتملًا، ومن ثم فإن المربي يظل فيما يشبه حالة النزال مع من يربيه.

الفيصل في الأمر، كما يؤكد على ذلك الدكتور عبد الكريم بكار، شعور المربي أن هناك تقدمًا ما على صعيد الجانب الذي يهتم بتنميته في شخصية من يربيه، ولا بأس في أن يكون هذا التقدم بطيئًا إذا ما تبين أنه ثابت، مع أن النكوص ليس حادثًا غريبًا.

إن التربية عبارة عن جهود متتابعة لا ندري على وجه التحديد متى تثمر الثمرة المرجوة، ولا بد من الصبر، وعلى الله المثوبة والأجر.

وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة:

قصة تتكرر دون وعي

الأمومة وطن.. والطفولة مستقبل

هكذا تغير دور الأسرة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.