فن وأدب - مقالاتمقالات

الأدب الفيروسي في ممالك الحب والنار

تظهر ملامح الأدب الفيروسي المتمثل في رواية “صفارات إنذار بغداد” لياسمينا خضرا، تطرق الكاتب عبر بطل روايته الذي فضل أن لا يمنحه اسمًا، جاعلًا منه حالة مجهولة تمثل البدوي العربي الساذج، الذي يعيش في قرية ضائعة في صحراء العراق تسمى كفر كرم، وفي دخول غير مسبوق إلى عالم الفيروسات، كانت المهمة الانتحارية التي قبل البطل القيام بها هي حقنه بفيروس ينتقل عبر التنفس قبل أن يسافر إلى لندن، وبث أنفاسه هناك في المطار والمترو والحدائق لإفشاء العدوى، التي ستنتقل إلى أوروبا وأمريكا كافة.

اكتسح الطاعون مدينة وهران الجزائرية كما جاء في رواية الطاعون لألبير كامو، وتجتهد الرواية في إظهار تأثيرات الطاعون على العامة، ويُعتقد أن الرواية مبنية على جائحة الكوليرا التي قتلت نسبة ضخمة من تعداد سكان وهران في عام 1849 عقب الاستعمار الفرنسي.

نجح أحمد الحلواني في روايته “ممالك الحب والنار” (2021) في اختيار أجواء عاكسة لخريطة المنطقة اليوم، بعد أن حدد فترة الشدة المستنصرية في العصر الفاطمي، كونها ظاهرة تاريخية تصور معاناة الشخصية المصرية المستنيرة، في ظروف تواجه فيها البلاد خطر تحويل منابع النيل في الحبشة، ومرتزقة قادمين من الغرب والشرق يجدون من يمولهم ويدعمهم، حتى تنتهي هذه الشدة على يد بدر الجمالي، فيجتاز الأزمة التي تنتهي مع السطور الأخيرة للرواية لحظة أن يعبِّر أحد أبطالها المصريين عن انتمائه لوطنه مهما كان مذهب من يقصد هذا الوطن بسوء، فكانت الرواية مستحضرة للتاريخ بوصفه الوجه الآخر للحاضر.

تتقاطع أحداث هذه الرواية مع التاريخ، فهي تضم وقائع جرت فوق أرض مصر، في فترة من أحلك الفترات التي مرت بها على مدى تاريخها الموغل في أعماق الزمن، تاركة آثارًا ليس من السهل رأبها ذات يومٍ، خطَّها الشر في كتاب الظلمات، مهما حاولنا لا نستطيع نسيانها، ستظل عالقة في كينونتنا حتى تقوم الساعة.

يقول الحلواني مشيرًا إلى ذاك الحال داخل الرواية :”غراب أسود، أشد من ظلمة جوف الليل، طار محلقًا فوق قباب حط على إفريز شرفتها، مطلقًا صرخة رددها الفضاء أصمت القصر، أذنيها، واستوحش قلبها، وانقبض صدرها، لوحت بذراعيها كمن يحاول طرد هذا الصوت القاسي الذي يبث الخوف في صدرها، فهي تعلم أن نعيقه نذير شؤم وفراق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رددت مرتعدة “اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك”، وهبت قافزة من فوق سريرها، فوساوسها تطيح بكل حواسها، وعشرات الأسئلة تهاجمها كوحش صار يتغذى على مخاوفها، ذرعت أرجاء الغرفة وهي تقلب الأمور على كافة أوجهها، عقلها المثقل بالهموم لا يستطيع ملاحقة الأحداث وما آل إليه حال زوجها “الظاهر لإعزاز دين الله” خليفة المؤمنين، بعدما أصابه وباء “الطاعون”، وأصاب كثيرًا من أهل بر مصر كلعنة حلت على هذا الشعب، كانت موقنة أن الابتلاء بهذا المرض الخطير لا ينجو منه أحد، ولا ينفع معه علاج الأطباء، بل ربما يجر في أذياله الموت لكل أهل البيت.

عوت من أعماقها كذئب جريح، فكيف تجلس بلا حراك في انتظار احتضار النور في عينيه، مستقبلًا الموت في أي لحظة؟ كيف وهي العاشقة المدلّه في هواه، لكن هل بيدها شيء؟ كم تمنت أن تقضي تلك اللحظات الأخيرة معه، حتى لو جمعهما الموت معًا كما جمعتهما الحياة”.

اعتمدت الرواية على التاريخ المصري في مادتها الدرامية لاستخلاص قيم إنسانية عامة، وهذه ظاهرة إيجابية بكل المقاييس مهما كانت ثغراتها وما تثيره من قضايا، بخاصة الالتزام التاريخي أو مجاوزة الوقائع القديمة والسماح للمتخيل بالانطلاق في فضاء الدراما، فالحضارة المصرية هي التي أسست صرح نجيب محفوظ مترجمًا ثم مبدعًا في ثلاثيته المصرية الأولى، وبعدها روايته العائش في الحقيقة.

كذلك الحال مع محمد سعيد العريان في روايتيه قطر الندى وعلى باب زويلة، وعلى أحمد باكثير في رواية وإسلاماه، وما زالت هناك مناطق ثرية كثيرة في تراثنا المصري يمكن أن يمنح الأدباء مادة طيعة للتشكيل واكتشاف الذات الفردية والجماعية.

في الرواية مجموعة من القيم الإيجابية من حيث التشكيل والدلالة، فلقد حرص الحلواني على تقديم كثير من المعلومات التاريخية بشكل تصويري أو حواري، فأكسب الرواية قدرًا من الحيوية الدرامية، وإن كان قد جانبه السبيل في بعض المواقف الصغيرة حين كان يعرض المعلومة بأسلوب المؤرخين، ربما لاعتماده على مصادر متخصصة، لكن الخطاب في المراجع التاريخية لا يكون موفقًا إذا انتقل كما هو للسرد الروائي، كذلك استخدم الحلواني سياقات حوارية متعددة تكشف شخصياته، سواء كانت مستقاة من التاريخ الفاطمي أم أضافها الخيال لتفعيل صراعات عاطفية واجتماعية ونفسية.

تتناول رواية “ممالك الحب والنار” لأحمد الحلواني فترة من أهم فترات التاريخ المصري في عصر الفاطميين، إذ مرت مصر بمحنة قاسية عرفت بـ”الشدة المستنصرية”، إذ انخفض منسوب النيل انخفاضًا لم يسبق له مثيل، بجانب مؤامرات ودسائس اجتاحت البلاد بين الجنود الأتراك الذين يستعين بهم الخليفة، وبين الجنود السودانيين الذين تستعين بهم أم الخليفة، ويشتد القُواد الأتراك على الخليفة المستنصر ويجردونه من أمواله وينهبون قصوره، حتى وصل بهم الأمر إلى القبض على أمه الملكة رصد. بجانب انتشار وباء الطاعون الذي حصد ثلثي الشعب المصري، فحدثت مجاعة لم تحدث في تاريخ مصر، وما عاناه الشعب المصري من فظائع يندى لها الجبين.

تأخذنا الرواية بالتوازي وتحكي عن عائلة مصرية فقيرة تعيش في أقصى جنوب مصر، وتعاني الفقر وضيق الرزق، إلى أن يعثر رب الأسرة “الفضل بن قادوس” على لُقى ذهبية كثيرة تعود إلى حقبة الفراعنة، داخل إحدى المقابر التي كان يشرف على عملية الدفن داخلها، وهنا يقرر أن ينقذ عائلته من الفقر، ويقرر أن ينتقل إلى القاهرة هو وعائلته لبدء حياة جديدة، يمكنه فيها بيع ما وجده من كنوز الفراعنة والاستثمار في التجارة بعيدًا عن أعين جيرانه داخل الكفر، الذين لطالما عرفوا عنه الفقر المدقع.

ينزل أبو الفضل مدينة الفسطاط ،وهناك تبهره المدينة هو وعائلته، وأخذ يراقب البشر والتجار، إلى أن التقى بالشيخ “طاهر أبو الحسن المنصور” وهو تاجر للأقمشة، ومن هنا بدأت العلاقة التي سادها الحب والاحترام، فساعده المنصور على تكوين تجارته، وازدهارها، وهنا يتعرضون لعديد من المشكلات بسبب الحقد عليهم.

في ممالك الحب والنار لم يجد المستنصر أمامه مخرجًا من هذه الأزمة العاتية سوى الاستعانة بقوة عسكرية قادرة على فرض النظام، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى دولة مزقتها الفتن وثورات الجند، ومجاعة لم يحدث مثلها من قبل، وأوبئة أفنت ثلثي شعب مصر، فقرر استدعاء بدر الدين الجمالي والي عكا لما عرف عنه من إخلاصه له وقوة بأسه. فجاء الجمالي واستعان بجنده من الأرمن، واستطاع بالذكاء والحيلة القضاء على أمراء الترك، ومحاربة السودانيين في الصعيد والقبائل العربية في وجه بحري حتى استتب الأمن والأمان في مصر.

مقالات ذات صلة:

بين “الهلال” و”العربي”

الرجل الراكض .. رواية ستيفن كينج

الوقوف على العتبات.. أحلام الثورة وإحباطاتها

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. خالد عبد الغني

دكتوراه علم النفس الاكلينيكي والتحليل النفسي