محمد عبد الرازق علي: الوقوف على العتبات.. أحلام الثورة وإحباطاتها
مرَّ أكثر من عقدٍ على قيام وانهيار ثورة 25 يناير، حتى بات الفعلُ الثوري ذاتُه بعيدًا، كأنه آتٍ من الماضي البعيد، يُحييه كلُّ حينٍ حديث كارهيه أكثر من المتشوقين للعودة إلى نقطة انطلاقه، كثير يحلم بامتلاء الشوارع والميادين بالمطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن تظلُّ الأحلام في مكانها مجرد أحلام لا تتحول إلى واقع، ولا تزحف نحو التَّحقق، هل فات أوان العودة مرة أخرى، أم على الثوريين أن يقتنعوا أن العودة إلى يناير بمعطياته الأولى مستحيلة؟ وهناك بدائل وأشكال أخرى لا بد أن يتبناها الثوار، لا يمكن نسيان السردية القديمة، لكن الرسوخ في براثنها يُعطل طريق الوصول إلى السردية الجديدة بمعطيات عصر وقوة وسلطة جديدة لا تمت بصلة للسلطة التي ثار عليها المصريون.
في روايته الأولى “الوقوف على العتبات” الصادرة عن مؤسسة سطوع للنشر والتوزيع، يمسُّ الكاتب “محمد عبد الرازق علي” أطياف ما بعد الثورة، انعكاس تلك الأحداث في فورانها وقبل انطفائها، وجهات النظر المختلفة للشخصيات، ما تراه فعلًا حقًا قادرًا على التغيير، وما تراه منها أن ذلك كله عبث، تقف الشخصية الرئيسية على الأعراف، مُترددة ما بين الاقتناع التام بالثورة، ورفضها نهائيًا، وبين النقطتين محاولة للفهم، وإنكار للأسباب التي جعلتها ما تزال مشتعلة، تُفرق وتُجمِّع، تجبر آخرين على الكلام، في حين يصمت البعض، أو يختار الهجرة بعيدًا عن جنة الثورة ونارها.
الثورة من منظور مجتمعي
يحاول الكاتب أن يبتعد عن الحديث عن الثورة حديثًا مباشرًا ليقدم فنًا لا منشورًا سياسيًا، يقول: “بعيدًا عن حياتي الشخصية وقناعاتي الخاصة في الشأن العام، أحاول تقديم فنٍ يسعى إلى التجرد ولا يفرض سطوته على القارئ، وإنما يُتيح له مساحة من التفاعل والاشتباك مع تصوراته المُسبقة ومساءلتها إن أمكن. “الثورة” ليست حدثًا سياسيًا فقط وإنما حدث مجتمعي بالأساس، حاولت الدخول إلى منطقة بعيدة فيها ربما لم يهتم كثير من المثقفين بالاشتغال عليها وهي منطقة “حزب الكنبة”، هناك أشخاص لا يهتمون بالأحداث المجتمعية بقدر ما تشغلهم حياتهم اليومية، وربما لا يُكوِّنون رأيًا صلبًا عن أي شيء، كان هذا مدخل أحد الشخصيات ثم تتابع رسم بقية الشخصيات وتطويرها مع أحداث الرواية، مع محاولتي الدائمة للانحياز إلى الفن ومن ثَمَّ رؤى الشخصيات وقناعاتها هي لا قناعاتي أنا”.
انطلاقًا من رؤيته الفنية عن أحداث واقعية عاشها أغلبنا، وكان في قلب الميدان، يشير عبد الرازق إلى المساحة التي جعلته يأخذ قدرًا كافيًا من الحياد، وعدم الوقوع في هوى الحماسة الذي قد تُنتج أعمالًا مُتعجِّلة، يوضح تلك النقطة: “وقت الثورة كنت مراهقًا، وقتها لم أكن أستطيع الكتابة بالدقة والفنية الممكنة أو التي أتخيلها في نفسي حاليًا، لمحاولة تشريح الحدث بشكل روائي ذي ثقل. في عام 2011 م وما بعدها ظهرت كتابات مُتعجلة مأخوذة بفورة حماسة الموقف، حتى وإن لم يكشف عن كل تجلياته، ربما اقتربت الكتابات الأولى إلى التوثيقية أو التسجيلية أكثر من عنايتها بالفن الروائي في ذاته. ثم بعد سنوات ربما بعد 2017م ودخول المجتمع في حالة تامة من الإحباط، ظهرت كتابات أُخرى أقرب لكونها “متحسرة” أو على سبيل ندب الفرص الضائعة. ربما أردت أن أشتبكَ مع الحدث في حالة وسط بين الحماس الأعمى والحسرة القاتلة، على سبيل خلق شخصيات فنية تتفاعل مع الحدث باعتباره قابلًا للشك والمساءلة والتخوف وربما المعارضة، بعيدًا عن الطهارة الثورية المتخيلة في عقولنا تجاه يناير”.
اقرأ أيضاً: “السيدة كاف”.. تنويعات عن عالم موجع غريب
عتبة العنوان
بتأمل العنوان الذي يتضافر مع المتن ليعبر عن تلك الحسرة التي أشار إليها الكاتب، فإن هناك مَن ينصت إلى الماضي ولا يبرح مكانه، ليعرف أن الزمن قد تجاوزه وعليه أن يترك تلك العتبات التي يقف عليها حائرًا، يشير عبد الرازق إلى ذلك التذبذب بين الدخول والخروج، والتأرجح بين حالتين. ربما شخصيات العمل كلها كذلك، متذبذبة بين عدة مواقف وحالات مُربكة ومُركبة في نفس الوقت، يقول: “لحظة يناير انتهت كلحظة وإن امتد تأثيرها على الوعي الجمعي بعدة أشكال، أعتقد أن لحظة يناير تمت هزيمتها، قد لا يتقبل قطاع كبير من جيلي والجيل الأكبر منا –الفاعلين والمتأثرين المباشرين بتلك اللحظة– الهزيمة الموجعة، وذلك ما يجعلنا عالقين فيها، بل ويسعى البعض إلى إعادة استنساخها بحذافيرها دون مساءلة أو نقد بنَّاء، وهي محاولات تبوء بالفشل دومًا، في رأيي أننا نحتاج تجاوز يناير أكثر من أي وقت مضى”.
في الوقوف على العتبات، تبدو شخصية “مي” شخصية محورية تدور في فلكها الأحداث، ويدور حولها “علي” في محاولة مريرة للإجابة عن السؤال لماذا تركته؟ يترك الكاتب شخصياته لتصنع مصائرها بنفسها، وتتقلب كيفما شاءت لها ظروف الحياة، فهو لا يكتب مُحملًا لقناعات مُسبقة، وأيديولوجية ما قد تسجن العمل وتجعله في نطاق ضيق، وتغلق قوس التأويل، يتحدث عبد الرازق عن سر الصنعة، وسحر الفن الذي يستطيع أن يكشف الحقائق ويُعري أكثر مما يُعالج ويرتق، يوضح ذلك: “أميل لوضع تصوُّر بالخطوط العريضة، من بينها سؤال عام عن علاقة الشخصيات بحدث ضخم كالثورة، بحكم وجودها كخلفية في زمن حدوث الرواية، بعد الانخراط في الكتابة تظهر دوافع للشخصيات بناء على خلفياتها المرسومة ووضعها الاجتماعي وتفاعلها مع الأحداث التي تقابلها خلال الرواية، “مي” هي أكثر شخصيات الرواية اندماجًا في الثورة، حتى لو كان اندماجًا إلكترونيًا، قد يعني رحيلها عدة رمزيات وإشارات يتفاعل معها القارئ حسب قراءته وتفاعله، لكن تظل الجملة الافتتاحية معبرة عن وضع عام: تركتك “مي” ولا تعرف لماذا!”.
اقرأ أيضاً: رواية فاوست
سحر الفن وشروطه
لم يكن محمد عبد الرازق ناشطًا سياسيًا ولا منتميًا إلى فصيل ثوري، لكنه معنيٌ بالشأن بالعام، فاختياره لموضوع روايته ناتجٌ عن ذلك الهمِّ، لكن في الوقت نفسه يحاول أن تكون اشتراطات الفن الروائي هي التي تحكمه، يقول في هذا الشأن: “أعتقد أن كلَّ رواية جيدة مهما كان موضوعها فهي مشغولة بالشأن العام بشكل أو بآخر، بداية من الروايات المُغرقة في الرومانسية، وحتى الروايات السياسية المباشرة، ربما لا تضطر الرواية لقول ذلك مباشرة لكنه موجود على أية حالٍ في خلفية الرواية وعقل كاتبها وبناء شخصياتها فيما بعد”.
خلق عبد الرازق من مأساة “علي” دليلًا على ضياع أحلام أجيال بعينها، أُحبطت بسبب إجهاض الثورة، فكانت تلك المأساة تعبر عن وضع اجتماعي معين يفتح أفقًا من الأحلام والطموحات لطبقات مختلفة، كلٌ على حسب وضعه وتفاعله مع الحدث وقدرته على استثماره. هناك أجيال فقدت أحلامها بسبب هزيمة الثورة، كما حدث بالضبط وانهارت أحلام بعد نكسة يونيو 67، وقامت أحلام أخرى بعد نصر أكتوبر، كلها أوضاع تفرض على المجتمع آفاقًا مغايرة لوضعه قبلها.
ينفي الكاتب كونه مُؤرخًا يهتم بالتفاصيل الدقيقة، لذلك مثلت الثورة خلفية لأحداث روايته، تُلقي بظلالها، لكنها ليست مسيطرة، يقول: “عنايتي الأساسية الكتابة عن الأحداث اليومية الصغيرة التي لا ننتبه لها في خضم الأحداث العظمى، وأن هناك شخصًا يحب ويكره ويتألم ويتعذب وسط الهتافات والشعارات وبرامج التوك شو. شخصية “علي” نموذج من ملايين النماذج اليومية في مصر، وربما كانت هذه هي حياتي في عالم موازٍ، أو حياة أي قارئ”.
عن اللغة وجماليتها
تتجاوز اللغة مجرد وظيفة التوصيل إلى غايات جمالية قد تكون ممتعة في ذاتها، وحاملة لصراع الشخصيات داخل الرواية في الآن نفسه، خاصة عندما يطل ضمير المتكلم، يتعامل محمد عبد الرازق مع الكتابة بوصفها لعبة بازل، يمكننا تركيب عدة قطع لتتشكل في النهاية لوحة مختلفة في كل مرة، يُثمن دور اللغة في تشكيل عوالمه، ينظر إليها بإجلال محاط بخطر التقديس، فيبتعد عنه بقدرٍ، بغيته كما يقول: “الوصول إلى القدرة على الكتابة بلغة سهلة وحميمية كما أتحدث في حياتي اليومية والخاصة، لا تُرهقني الكلمات، ولا تُرهق قارئي، فاللغة مثل تكنيك السرد هي زاوية لرؤية الواقع كما تراه الشخصيات وتفكر فيه، في رأيي أن اللغة اليوم تتخفف من كل ما يثقلها، بل وتنشأ روابط لغوية أسرع من قدرتنا على ملاحظتها، بسبب شيوع أدوات السوشيال ميديا”.
عندما سألته عن طموحه اللغوي في أشكال الكتابة التي جربها من المقال إلى القصة إلى الرواية، قال: “كلُّ عملٍ أدبي تجربة لغوية في حد ذاتها، في الكتابة أميل دومًا إلى التخفف كما قلت، أن تصير اللغة أسهل وأسرع إصابة لهدفها، دون أن تفرض على القارئ تصورًا معينًا أو ثقلًا يزعجه، بل يكون متفاعلًا معها”.
اقرأ أيضاً: قراءة في كتاب “مدارات المجاز في الخطاب”
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا