فن وأدب - مقالاتمقالات

بائع النعناع

إِبَّانَ مِشْيَتِي المعتادة، لمحته أكثر من مرة يجلس في ميدان شهير مزدحم، وإن اتخذ مكانًا قصيًا لكنه مرأيٌ للجميع، يُرَى منتصبًا أمام كومة من زهور النعناع الفواحة، أرقبه كل يوم وأنظره غدوة ورواحًا، ضوع زهوره يختلط برائحة السجائر التي ينفثها بين آونة وأخرى، رجل في الأربعينيات من عمره، لا توحي ملامحه أو هيئته بأنه رجل مكدود متعب فقير، يبيع نعناعًا بدراهم معدودات، لا، ليس الأمر هكذا فيما يبدو لي، ربما ثمة سرٌ ما يخفيه! ومع زحام المارة في الميدان لم أكن أرى زبائن كثيرة تتردد عليه، تعجبت كثيرًا وتحيرت، لماذا لا يقبل الناس على هذا الرجل في هذا الوقت المصطخب؟ مع أن منظر زهرة النعناع يوحي بالراحة النفسية والجمال الأخاذ، بل يجذبك إليها جذبًا، ناهيك بسعره الزهيد، وضوعه الآسر، ترى ما السبب؟ ساءلت نفسي!

اقتربت منه أكثر وأكثر حتى رأيته من كثب، رجل ممشوق القوام فارع الطول، يفترش حافة الطريق، يشعل سيجارته ممسكًا إياها بيد، بينما يمسك باليد الأخرى علبة من “السفن آب”، وبجواره تقبع زجاجة مياه معدنية نصف لتر، يجلس في هيئة غريبة، لا توحي ملامحه بالشفقة ولا تستجلب الرحمة للشراء منه أو مساعدته، تفاصيل جسده تلك تبين عن رجل جار عليه الزمن، وأثرت فيه الحوادث، فصار هذا شأنه بعد أن كان عزيزًا مُمَنَّعًا بماله، قويًا بجاهه، أبيًا بسلطانه، بيد أنه رغم ما آل إليه أمره، واخترمه الدهر، وأضوته السنون، قد احتفظ بقامته الفارعة وملامحه الفتيَّة، فلم تتأثر، ناهيك بجِلْسَةٍ مُتَأَبِّيَةٍ على حدثان الدهر وتقلبات الأيام، ولعله رغم فقره الطارئ لم ينس بقايا عادات قديمة كانت له، من مثل شربه للسجائر أو احتسائه المياه المعدنية أو اعتياده على شرب السفن آب، ساءلت نفسي كثيرًا متعجبًا، كيف يتأتَّى لرجل أن يبيع نعناعًا على قارعة الطريق وكل ما في حوزته لا يساوي ثمن علبة السجائر التي يدخنها؟!

كنت كلما أقدمت على الشراء منه صرفني عنه صارف، فلربما منعتني تلكم الهيئة وهاتيكم الجلسة، فأنتقل من ثم للشراء من آخرين أرى أنهم مساكين يستحقون المساعدة، بل ربما أكثر احتياجًا منه، وعلى الرغم من عدم شرائي منه مطلقًا، فإنني لم أكن آلو جهدًا في مراقبته دون أن يراني، أختلس النظر إليه، فثمة رغبة ملحة في نفسي تقودني إليه يوميًا علَّني أستكنه هذي الشخصية العجيبة الجديرة بالدراسة والتوقف عندها، فأقترب منه، أتفحص فيه، أقلب النظر، ثم أنطلق بعيدًا، آفلًا إلى وجهتي دون أن يظفر مني أو من غيري ببعض الجنيهات نظير زهور النعناع، إلا نادرًا!

لكنني بالأمس، وبالأمس فقط، عزمت وقررت وقلت في نفسي لا بد أن أدنو من هذا الرجل، وأستكشف عالمه من كثب، وأتعرفه مهما يكن، والأمر لن يعدو بضعة جنيهات، مع العلم أنني لست بحاجة إلى النعناع، فلست من هواة شربه، أو مزجه مع الشاي، بيد أنني فتشت في جيوبي فلم أعثر على “فَكَّة” نظير “ربطة” النعناع، لكن لا بأس، قلت في نفسي، اقتربت أكثر فأكثر وأنا في شغف كي أبصر –كفاحًا– هذا الرجل الغريب الذي يبيع نعناعًا لا يتجاوز في جملته خمسين جنيهًا، بينما يشرب سيجارًا، ومياهًا معدنية، وسفن آب، فيا ترى ما سر هذا الرجل العجيب، بل من يكون ذلك الرجل الغريب؟! نعم، من يكون؟! من؟!

سلمت عليه، فردَّ مبتسمًا بعدما أزاح السيجارة عن فمه مرحبًا، ناظرًا إليّ، قائلًا: “تفضل، ماذا تريد؟! واحدة، أم اثنتين؟!”، فرددت: “أريد واحدة من هذا النعناع الجميل”، بينما عيناي تتفرسان فيه، تخترق داخله، تفتش عن شيء ما، شيء لا أدريه، لم يمهلني حتى اختار لي واحدة، وأعطاني إياها، قرَّبتها من أنفي، يا الله، يا لها من رائحة ذكية شذية، لاحظت أنه لم يكن أمامه هذي المرة إلا أربع ربطات فقط، “بكم الواحدة؟” سألته، “بخمسة جنيهات” هكذا أجاب! لم يكن معي آنئذ إلا مئتا جنيه، أنقدته إياها، فقال لي: “لحظة واحدة، أحضر لك الباقي حالًا، انتظرني هنا، لا تتحرك!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقفت مليًا، مرت دقائق ودقائق ولم يأت الرجل، لم أتضجر ولم ينتابني ما يعكر صفوي، فقد كنت مستمتعًا برائحة النعناع الفواحة التي تجاوبت مع حفيف الهواء في ليل الصيف الساحر، متناغمًا مع صوت فيرزو “أنا لحبيبي وحبيبي إلي”، ذلكم الطيف الملائكي المنبعث من إحدى المحال التجارية المتاخمة!

مر أكثر من نصف ساعة، تسرب إليّ بعض قلق، تلفتُّ يمنة ويسرة أبحث عن الرجل فلم أجده، سرحت بعيدًا بعيدًا، تُرى ما الذي حدث؟ ولماذا غاب الرجل كل هذا الوقت؟! هل أصابه مكروه، لا قدر الله؟! ترى ما الذي أخَّره؟! قطع تفكيري صوت أحدهم، وهو يقول لي: “يا أستاذ، يا أستاذ، إنت بتدور على الراجل اللي باع لك النعناع؟!”، أومأت برأسي نعم، فقال لي: “لقد ركب التاكسي منذ قليل وانطلق”، ثم أردف: “موش إنت اشتريت كل النعناع إللي معاه؟! هوه إنت كنت عاوزه في حاجة تاني؟!”، فأخبرته واجمًا من الصدمة: “لا، لا أريده في شيء، فقط أسأل عنه، مجرد سؤال، نعم مجرد سؤال!”.

لحظات مرت عليّ، وأنا غائب عن الوعي، لا أكاد أصدق ما حدث، يا الله، إلى هذي الدرجة أبدو ساذجًا؟! ساءلت نفسي، أدركت الحقيقة بعد حين، ابتسمت، ضحكت، ثم قهقهت، وبينما أنا كذلك، إذا بأحد المارة وقد رآني ممسكًا بالنعناع، وأمامي ثلاث أو أربع ربطات –بقية مما ترك الرجل قبل أن يفعل فعلته– يقول لي: “يا أستاذ، يا أستاذ، بكم ربطة النعناع؟!”.

مقالات ذات صلة:

السوق

النّصبُ اللذيذ

الغلاء والذنوب

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب