مسارات التأمل
مع انتشار ظاهرة “موت الفجأة” أخيرًا، تقف النفس البشرية عاجزة أمام حقيقة الموت، تسيطر عليها جملة من التساؤلات الحائرة، منها:
– من منا لم يفجعه الموت يومًا في غالٍ عزيز لديه؟
– من منا لم يذق حرقة ألم الفراق عندما ودع أحبته الوداع الأخير؟
– من منا لم يستسلم لسطوة القدر الذي خطف أناسًا كانوا يومًا ما ملء السمع والبصر والفؤاد؟
– من منا لم يحترق قلبه حزنًا على راحل فارق الحياة أمام عينيه، وهو عاجز غير قادر على مساعدته أو إنقاذه؟
– من منا لم تسرق النوم من عينيه ذكريات الحنين إلى الزمن الجميل مع من كانوا لنا يومًا كل شيء جميل؟
– من منا لم يفر إلى ذكرياته مع من رحلوا مستأنسًا بها هروبًا من واقع الحياة المرير؟
ما هي فلسفة الموت؟
إنها “فلسفة الموت” يا سادة، إنها فلسفة “الحقيقة الكونية الوحيدة المجردة” التي لا تقبل إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، والدعاء المستمر لمن خطفهم قطار الموت السريع.
تبقى “فلسفة الموت” فلسفة وجودية تبلور مواقف البشر من الحياة وفق “أيديولوجيات فكرية” متباينة من إنسان إلى آخر، ونرى تأكيدًا لذلك فيما يلي:
فلسفة الموت لدى بعضهم تمثل “استسلامًا للقضاء والقدر”، وقناعة تامة بأن الموت حق وأنه سنة الله في خلقه، فكل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وتلك فلسفة “النقاء الفطري السليم”.
فلسفة الموت لدى بعضهم تمثل “صدمة رهيبة”، تكسر في القلوب الرغبة في استكمال مسيرة الحياة، فترى اليأس مسيطرًا على قلوب من رحل لديهم عزيز غالٍ وعلى عقولهم، كأن مسيرة الدنيا توقفت يوم الرحيل، كأن عقارب الساعة قد أصابها الشلل فلم تعد تقوى على الدوران!
ماذا يعلمنا الموت؟
فلسفة الموت لدى بعضهم تمثل فرصة “لمراجعة الذات الظالمة المستبدة”، آكلة الحقوق ظالمة الأبرياء مستبيحة الحرمات مدمنة المعاصي والذنوب، فرصة لإعادة الذات إلى الله توبة وندمًا وخجلًا وأملًا جديدًا في الفرار من النار والعودة إلى الله بقلب جديد وعهد جديد وأمل جديد.
فلسفة الموت لدى بعضهم تمثل “حيرة أمام سطوة القدر”، وتمثل إحساسًا بالعدم وفقدان معنى الحياة، فتراهم قد خارت قواهم واستسلموا لأوهام استبدت بعقولهم، ففقدوا الرغبة في الحياة انتظارًا للموت الذي هو عندهم “راحة” من شقاء الدنيا وأوجاعها وآلامها.
فلسفة الموت لدى بعضهم تمثل “فرصة للتشفي فيمن رحلوا”، هكذا يراها “حثالة البشر” فرصة للتبجح واللا مبالاة والإحساس العفن القذر بموت القلوب وبلادة المشاعر وتعفن العقول، تلك التي ترى أن من رحلوا كان الرحيل “عقابًا” لهم على ظلم اقترفوه في حقهم يومًا ما، ولا يدرك هؤلاء الأغبياء أن قدر الموت حق لا يرتبط بدعاء ولا موعد ولا مكان، فالموت كأس وكل الناس شاربه، والموت قطار وكلنا راكبوه إجبارًا، ولكل منا محطة نزول لن نفر منها ولن نحيد عنها، فلسنا نمتلك رفاهية الاختيار.
جدلية الموت والحياة
فلسفة الموت لدى بعضهم تمثل وجهة نظر “براجماتية وجودية”، فالموت عندهم إذا رحل فرد منهم سيطرت عليهم “حيرة المنافع والمصالح”، وفرضت عليهم تساؤلات براجماتية:
– ثروته الكبيرة التي أفنى عمره الطويل في جمعها لمن ستؤول اليوم؟!
– زوجته الجميلة التي أقسمت له بأغلظ الأيمان على وفائها لذكراه، غدًا ستبحث عن زوج جديد، فأين الوفاء؟!
– منصبه الرائع الذي ظلم الناس به مرارًا لمن سيؤول بعده؟!
– بيته الجميل الرهيب الذي غادره من سيسكنه غدًا؟!
لم يعد في القلب ذرة حزن عليه، فقد أراح واستراح وترك البراح واسعًا، ليحلق فيه المتشوقون استمتاعًا وتلذذًا واندماجًا في الملذات، على شرف راحل صار والعدم سواء، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
الحقيقة المؤكدة والحزن الدائم
إنها “الحقيقة المجردة” يا سادة، حقيقة الموت، ذلك القدر المحتوم الذي يطاردنا كل لحظة ويخطف كل دقيقة أرواحًا تحيط بنا وإذا بنا نودعها كل يوم إلى دار الحق مغادرين دار الزيف والباطل والهراء.
“فلسفة الموت” يا سادة فلسفة اليقين، تلك القناعة الثابتة بأن العدم حق وأن كل غرور الدنيا إلى زوال ونحن جميعًا “مساقون” ليوم لن ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم فأحسن خاتمتنا في هذه الدنيا، وسلح عقولنا بزاد الرضا بالقضاء والقدر، وعطر قلوبنا بعبق الحقيقة، وأسبغ علينا نسائم رحمتك، واكتبنا عندك فيمن أدركوا العودة إليك قبل أن يسحقهم قطار الموت السريع بلا هوادة.
متعكم الله بالصحة والعافية –أيها الأحبة– وغفر الله لكل غالٍ علينا قد غيبه الموت عنا، وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه وكل محبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا