حتى الآلات الذكية في حاجة إلى النوم!
النوم حالة استثنائية تتسم بالغرابة، وإن كنا لا نُدرك غرابتها لأننا جميعًا نمر بها أو تمر بنا قسرًا، نعم، فأغلب الكائنات الحية تنام، وفي النوم وبالنوم، تنفصل جزئيًا عن أنشطة الحياة، لكنها تُمارس في الوقت ذاته واحدًا من أكثر أنشطة الحياة إلحاحًا: نشاطٌ يلتهم أكثر من ثلث عُمر كل امرئ منا! ما أقسى أن تكون واعيًا لفترة طويلة بلا راحة، أو أن تمتد ساعات عملك إلى الليل دون أن يتسلل النعاس إلى عينيك مُعانقًا اللا واقع، واللا يقظة، واللا معاناة!
قبل الخمسينيات من القرن الماضي، كان ثمة اعتقادٌ سائد بأن النوم نشاطٌ سلبي، أو حالة سكون للكائن الحي، ينخفض فيها النشاط البدني والعقلي، وتقل التفاعلات مع البيئة المحيطة بشكلٍ كبير. هذا صحيح جزئيًا، لكن النظرة العلمية الأوسع تُظهر لنا أن النوم بمثابة فترة ينخرط فيها الدماغ بكثافة في عدد من الأنشطة الضرورية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنوعية الحياة، فعندما تغمض عينيك وتستسلم للنوم، تتباطأ بعض العمليات في جسمك، بينما تظل عمليات أخرى نشطة بشكلٍ مدهش، إذ تكون معظم أجهزة الجسم في حالة ابتنائية (Anabolic State)، مما يساعد على استعادة الجهاز المناعي والعصبي والهيكل العظمي والعضلي. وهذه عمليات حيوية تحافظ على الحالة المزاجية والذاكرة والوظيفة الإدراكية وتؤدي دورًا كبيرًا في وظيفة الغدد الصماء وجهاز المناعة.
يبدأ النوم في جزء من الدماغ يسمى “تحت المهاد” (أو الوطاء، أو الهايبوثلاموس Hypothalamus)، وهو الجزء الذي يثير سلسلة من التغييرات تعمل على تحفيز النوم في الجسم، ومن ثم تقوم الخلايا العصبية في الدماغ بتعزيز النُعاس وتقليل اليقظة، بينما يبدأ النشاط الكهربائي في الدماغ في التباطؤ. طوال وقت نومك، يتناوب على دماغك نوعين مختلفين من النوم بشكل متكرر: نوم حركة العين السريعة (REM (Rapid-Eye Movement) Sleep)، ونوم حركة العين غير السريعة (Non-REM Sleep). الجزء الأول من الدورة نوم حركة العين غير السريعة، ويتكون بدوره من ثلاث مراحل، المرحلة الأولى، وتأتي بين الاستيقاظ والنوم (العينان مغلقتان ولكن من السهل إيقاظ النائم)، والمرحلة الثانية، مرحلة النوم الخفيف، وفيها يتباطأ معدل ضربات القلب، وينتظم التنفس، وتنخفض درجة حرارة الجسم، والمرحلة الثالثة، مرحلة النوم العميق المعروفة باسم نوم الموجة البطيئة (Slow-Wave Sleep)، إذ ترتخي العضلات وينخفض ضغط الدم ومعدل التنفس، ويكون من الصعب إيقاظ الشخص النائم. وكانت هذه المرحلة تنقسم مُسبقًا إلى المرحلتين الثالثة والرابعة، إذ تُمثل المرحلة الثالثة فترة الانتقال من المرحلة الثانية إلى الرابعة، تلك التي تبدأ فيها موجات الدماغ العميقة البطيئة (المعروفة باسم موجات دلتا Delta Waves) في الحدوث، بينما تسود تلك الموجات في المرحلة الرابعة. ويميل محتوى أحلام نوم الموجة البطيئة إلى أن يكون متقطعًا، وأقل وضوحًا، وأقل في القدرة على تذكره من تلك الأحلام التي تحدث أثناء نوم حركة العين السريعة. وهذه أيضًا المرحلة التي تحدث خلالها اضطرابات نومية بشكل أكثر شيوعًا.
أما الجزء الثاني من دورة النوم فهو نوم حركة العين السريعة، ويُوصف بأنه مرحلة نوم نشطة يُرافقها نشاطٌ مكثف للدماغ، إذ تتسارع موجاته وتغدو مماثلة لتلك التي تحدث في حالة اليقظة، كما يصبح التنفس أسرع وأكثر انتظامًا، وتتحرك العيون بسرعة خلف الجفون المُغلقة في اتجاهات مختلفة، وتنتاب عضلات الأطراف حالة شلل مؤقت، ويزداد معدل ضربات القلب، ويرتفع ضغط الدم. ويمكن للأطفال قضاء ما يقارب نصف نومهم في هذه المرحلة مقارنة بنحو عشرين في المائة فقط من البالغين. وبعد انتهاء هذه المرحلة تتكرر دورة النوم (أربع أو خمس مرات في الليلة)، ومع كل دورة يقضي النائم وقتًا أقل في مرحلة النوم العميق، ووقتًا أطول في مرحلة نوم حركة العين السريعة.
من جهة أخرى، يُعد نوم الموجة البطيئة مهمًا لتقوية الذاكرة، وهو ما يُشار إليه أحيانًا باسم معالجة الذاكرة المعتمدة على النوم (Sleep-dependent memory processing). وقد لوحظ ضعف تقوية الذاكرة لدى الأفراد الذين يعانون الأرق الابتدائي (Primary Insomnia)، كما لوحظ أن نوم الموجة البطيئة يُحسن الذاكرة الصريحة أو التوضيحية (Declarative Memory)، وهي النوع الأول من الذاكرة البشرية طويلة الأمد، وتشمل التذكر الواعي والمتعمد للمعلومات الواقعية والخبرات والمفاهيم السابقة (النوع الثاني هو الذاكرة الضمنية أو الإجرائية، وتشير إلى ذكريات لا واعية مثل مهارات تعلم ركوب دراجة).
سؤالنا الآن: إذا كان ثمة تشابه بين الشبكات العصبية الدماغية والشبكات العصبية الاصطناعية، فهل يمتد هذا التشابه إلى النوم، أو بالأحرى إلى ضرورة النوم؟
الحق أن الذكاء الاصطناعي غالبًا ما يتجاوز ما يمكن للبشر القيام به، إذ تقوم الشبكات العصبية الاصطناعية (Artificial Neural Networks) بنمذجة الخلايا العصبية في الدماغ البيولوجي بشكلٍ فضفاض، وتلك واحدة من أكثر تقنيات التعلُم الآلي نجاحًا في الوقت الحالي لحل مجموعة متنوعة من المهام، بما في ذلك ترجمة اللغة وتصنيف الصور وحتى التحكم في تفاعل الاندماج النووي. لكن إحدى أهم نقاط الضعف في كثرة من نماذج الذكاء الاصطناعي أنها –على العكس من البشر– غالبًا ما تكون قادرة على تعلم مهمة واحدة محددة ذاتيًا بشكل جيد للغاية. فإذا ما حاولت تعلُم عدة مهام مختلفة متتابعة، فإنها تميل إلى تجاوز المعلومات المكتسبة سابقًا بشكل مفاجئ.
بعبارة أخرى، الشبكات العصبية الاصطناعية عُرضة لخللٍ مزعج يُعرف باسم النسيان الكارثي (Catastrophic Forgetting). يمكن لهذه الشبكات التي لا تعرف الكلل على ما يبدو أن تستمر في تعلُم المهام ليلًا ونهارًا، لكن في بعض الأحيان، وبمجرد تعلُم مهمة جديدة، فإن أي تذكر لمهمة قديمة يتلاشى! يبدو الأمر كما لو كنت قد تعلمت لعب كرة التنس بشكل لائق، ولكن بعد أن أعقبت ذلك بتعلم لعب كرة الماء، لم تتذكر فجأة كيفية الإمساك بالمضرب وأرجحته! وقد وجد الباحثون أن إتاحة فترات انقطاع (تحاكي النوم البيولوجي لدى البشر) يسمح للشبكات العصبية الاصطناعية بالتحسن في التعلُم وتجنب النسيان. وكما أشرنا من قبل، نحن نعيش لنحو ثماني ساعات كل ليلة –أي ما يقرب من ثلث حياتنا– في حالة من الشلل اللا واعي، تتباطأ خلالها نبضات القلب وسرعة التنفس، وتنخفض درجة حرارة الجسم، ونبقى بلا حراك دون استجابة للمثيرات الخارجية، ولكن مع تقدمنا ببطء خلال مراحل النوم، يبدأ شيء غريب في الحدوث: يعود نشاط الدماغ إلى مستويات مماثلة لنشاط اليقظة دون علمنا، وتعمل أدمغتنا تلقائيًا على إعادة تنشيط كل ما عشناه في حالات اليقظة!
هذا ما أثبته مكسيم بازينوف (Maxim Bazhenov) أستاذ علم الأعصاب الحاسوبي (Computational Neuroscience) في كلية الطب في جامعة كاليفورنيا (University of California) في سان دييغو (San Diego) وزملاؤه في ورقتين بحثيتين متتاليتين، الأولى تحت عنوان “هل يمكن للنوم أن يحمي الذاكرات من النسيان الكارثي؟” (Can Sleep Protect Memories from Catastrophic Forgetting? نُشرت بتاريخ 4 أغسطس 2022)، والثانية بعنوان “إعادة مرحلة للتعلُم غير الموجَّه بالبيانات تُشبه النوم يُقلل النسيان الكارثي في الشبكات العصبية الاصطناعية” (Sleep-Like Unsupervised Replay Reduces Catastrophic Forgetting in Artificial Neural Networks نُشرت بتاريخ 15 ديسمبر 2022).
لاحظ بازينوف أنه أثناء النوم الطبيعي، تحدث عمليات الدماغ الأساسية ذاتها عند كلٍ من البشر ونحل العسل، إذ يتم العمل على تعزيز ثبات المعلومات التي تراكمت خلال لحظات اليقظة، ما دفعه إلى التساؤل: إذا كانت تلك الآلية تفعل بالضرورة شيئًا مفيدًا، فلِم لا نُجرب حالة مماثلة بالنسبة للآلات الذكية؟
كانت الفكرة ببساطة تزويد الشبكات العصبية الاصطناعية بموجاتٍ لإرشادها إلى الولوج في حالةٍ تُماثل حالة النوم عند البشر، لتأتي النتيجة مؤكدة للتماثل المفترض مع الحال الدماغ البشري، إذ ظلت الشبكات نشطة، لكنها بدلًا من تلقي معلومات جديدة، كانت تسترجع المعلومات القديمة وتُعززها، الأمر الذي يُقلل من خطر النسيان الكارثي!
على نحوٍ مُماثل، توصلت دراسة قامت بها ييجينغ واتكينز (Yijing Watkins) الباحثة في مختبر لوس ألاموس الوطني (Los Alamos National Laboratory) في الولايات المتحدة – قسم الحاسبات والعلوم الإحصائية، بمشاركة زميلين آخرين، تحت عنوان “بديل لنوم الموجة البطيئة ضروري للتعلُم المستقر غير الموجَّه بالبيانات في نموذج تطور القشرة الدماغية” (A Surrogate of Slow-Wave Sleep is Necessary for Stable Unsupervised Learning in a Model of Cortical Development نُشرت في الأول من مايو 2021، وسبقتها دراسة أخرى مماثلة نُشرت سنة 2020)، إلى أن الأدمغة الاصطناعية قد تحتاج إلى نوم عميق (نوم الموجة البطيئة) من أجل الحفاظ على استقرارها، مثلما تفعل الأدمغة الحقيقية.
كانت واتكينز وفريقها البحثي يعملون على تطوير شبكات عصبية جديدة تقترب من كثب من كيفية تعلم البشر والأنظمة البيولوجية الأخرى للرؤية، ذلك أنه في الشبكات العصبية الاصطناعية المستخدمة الآن في كل شيء، بدءًا من تحديد المشاة الذين يعبرون الشوارع إلى تشخيص الأورام السرطانية، يتم تزويد المكونات التي يطلق عليها اسم الخلايا العصبية بالبيانات، ومن ثم تتعاون هذه الخلايا لحل مشكلةٍ ما مثل التعرف على الصور. وتقوم الشبكة العصبية بشكل متكرر بتعديل التفاعلات بين الخلايا العصبية الخاصة بها لترى ما إذا كانت أنماط السلوك الجديدة هذه أفضل في حل المشكلة، وبمرور الوقت، تكتشف الشبكة الأنماط التي تبدو أفضل في حلول الحوسبة، ثم تتبنى هذه القيم الافتراضية تقليدًا لعملية التعلم في الدماغ البشري. وفي معظم الشبكات العصبية الاصطناعية، يكون ناتج الخلية العصبية رقمًا يتغير باستمرار مع تغير المدخلات التي يتم تغذيتها بها، وهذا مشابه تقريبًا لعدد الإشارات التي قد تطلقها الخلايا العصبية البيولوجية على مدى فترة زمنية معينة.
مع ذلك، وعلى الرغم من أن الشبكات العصبية الحالية سمحت لنا بتحقيق اختراقات في كثرة من المجالات، فإنها غير دقيقة بيولوجيًا ولا يمكنها في الواقع تقليد آلية عمل الخلايا العصبية البيولوجية في الدماغ، لذا عمد الفريق البحثي إلى استخدام ما يُعرف باسم الشبكات العصبية المتصاعدة (Spike Neural Network (SNN))، وهي نماذج حاسوبية تُحقق مستوى أعلى من المحاكاة العصبية البيولوجية، وتختلف بشكلٍ أساسي عن الشبكات العصبية الشائعة الحالية وأساليب التعلم الآلي. تستخدم الشبكات العصبية المتصاعدة نبضات أو وخزات (Spikes)، وهي أحداث منفصلة تحدث في نقاط زمنية مُحددة، بدلًا من القيم المستمرة المعتادة، ويتم تمثيل كل قيمة بمعادلة تفاضلية تمثل عملية بيولوجية، وأهمها إمكانات الغشاء للخلايا العصبية. وبمجرد أن تصل الخلية العصبية إلى إمكانات معينة تظهر نبضة، ثم يتم إعادة تعيين الخلية العصبية التي تصل إلى هذه الإمكانات.
جربت واتكينز وفريقها البحثي برمجة المعالجات العصبية لتعلُم كيفية إعادة بناء الصور والفيديو استنادًا إلى بياناتٍ متفرقة، مثل كيفية تعلم الدماغ البشري من بيئته في أثناء النمو في مرحلة الطفولة، لكن كل محاولات التعلُم أصبحت في النهاية غير مستقرة. أجرى الفريق عمليات محاكاة حاسوبية لشبكة عصبية متصاعدة لمعرفة ما حدث، فتبين أنه على الرغم من أنه يمكن للخلية العصبية أن تتعلم التعرف على البيانات التي تم تدريبها على البحث عنها، فإنه عندما استمر هذا التدريب دون انقطاع لفترة كافية، بدأت الخلايا العصبية في الخطأ باستمرار بغض النظر عن الإشارات التي تتلقاها. وبعد أن انتابت الفريق حالة من اليأس، حاول جعل المحاكاة تخضع لنوم عميق، بمعنى تعريضها لدورات من الضوضاء المتذبذبة، تقابل تقريبًا موجات الدماغ البطيئة التي تحدث في النوم العميق، الأمر الذي أعاد المحاكاة إلى الاستقرار. وعلى هذا اقترح الفريق البحثي أن هذه المحاكاة لنوم الموجة البطيئة قد تساعد في منع الخلايا العصبية من الهلوسة بالسمات التي تبحث عنها في الضوضاء العشوائية.
تاريخيًا، كان عالم النفس المعرفي وعالم الحاسوب الكندي جيفري هينتون (Geoffrey Hinton من مواليد سنة 1947) قد اقترح فكرة السماح للشبكات العصبية المبكرة بأخذ قيلولة كنوعٍ من الراحة التصالحية، ليس فقط لمنع النسيان الكارثي، ولكن أيضًا لتحسين عمل الشبكات العصبية وتعزيز مهامها، من الأمن السيبراني (Cyber Security)، إلى السيارات ذاتية القيادة (Self-Driving Cars) التي هي في حاجة إلى تذكر قواعد الطريق وتطبيقها بحكمة. وقد أعلن هينتون عن مقترحه في ورقة بحثية عنوانها “خوارزمية اليقظة والنوم للشبكات العصبية غير الموجَّهة بالبيانات” (The wake-sleep algorithm for unsupervised neural networks نُشرت في الثالث من أبريل سنة 1995).
لا شك أن استخدام مصطلح “النوم” لوصف آلية عمل الشبكات العصبية الاصطناعية قد يكون مثيرًا لكثرة من التساؤلات والتأويلات، وهو ما عبَّر عنه أستاذ الطب النفسي في كلية الطب في جامعة هارفارد روبرت ستيكغولد (Robert Stickgold من مواليد سنة 1945) بقوله: “من السهل بالتأكيد الزعم بأننا نترك الشبكة تنام، لكن من الحكمة عدم المبالغة في استخدام المصطلحات”. ومع ذلك، قد تساعد النتائج الجديدة في تفسير سبب خضوع جميع الأنظمة العصبية البيولوجية المعروفة القادرة على التعلُم من بيئتها، من ذباب الفاكهة إلى البشر، لنوم الموجة البطيئة. وربما تؤدي إضافة الموجات البطيئة بشكل دوري إلى استقرار قدرة الشبكات العصبية الاصطناعية على التعلم بشكلٍ أقوى، ومنعها من أن تصبح أكثر هشاشة وإضعافًا لعملياتها!
أخيرًا، سمع أحد الزهاد رجلًا يقول لقومٍ: أهلككم النوم. فقال: بل أهلكتكم اليقظة!
مقالات ذات صلة:
هل يمكن تفسير السلوك أنه نتيجة برامج مخزنة في المخ؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا