فن وأدب - مقالاتمقالات

همسات لها أجنحة

منذ رحيل كاتبنا الكبير الأستاذ أنيس منصور، لم أقرأ عبارات شاعرية مكثفة، كل منها تنطوي على حكمة سابغة وقيمة إنسانية عميقة وتفاعل خلاق مع حركة الحياة، إلا بقراءة كتاب من جزئين للكاتب والشاعر والصحفي المصري الأستاذ سلطان الحجار، المقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة حاليًا، حيث يعمل في جريدة “الاتحاد”. فقد أهداني كتابه ومعه روايتين أبدعهما عن ثورة يناير، الأولى بعنوان “فراشة الميدان” والثانية “ناشطة سياسية”، كلتاهما تنطلقان من الواقع القاسي الذي قاد إلى انفجار الثورة، ثم تتابعان تطورها وتأرجحها بين أيدي ثوار أنقياء حالمين وأدعياء انتهازيين ينتظرون في مكر أن تسقط كل الثمار في أيديهم.

كتابات سلطان الحجار

يعرفنا الكاتب على بطلة روايته الأولى قائلا: “فراشة الميدان اختارت التمرد على واقع شعب طريد.. حاولت أن تمتص رحيق الحرية من ورد الجناين، لكنها رحلت برصاصة غدر لتدفع ثمن بقاء وطن“، أما روايته الثانية فتحكي سيرة “ناشطة سياسية” من الألف إلى الياء، مستلهمة شخصيات نعرفها في الواقع، لكن الكاتب يضيف إليها من خياله كثيرًا. وفي الروايتين يتفاعل الحجار مع الثورة، في غربته. تلك الغربة التي يقول بشأنها في قصيدة له: “الغربة/ دفتر ورق/ حكايات/ على صفحات/ عرق/ آهات/ عمر راح/ وغرق..”، وذلك الاغتراب الذي يراه أيضا: “عضة ألم/ تنهش/ عرض الأيام/ تهتك/ ذكريات وطن، وطيف علم/ يرقص على لحن العدم/ يرفرف في سماء/ تمطر جرحًا/ على جسد هرم”، وهذا المغترب الذي هو في نظره: “بقايا إنسان/ يطوي: أوجاع قدم/ هائم/ على سطح الندم/ ينادي الحنين/ من خلف الزمن/ يناجي ولد/ يرضع/ من ثدي الحزن/ ويبكي فراق السند”.

لكن الجزء الفارق في كتابات الحجار همساته الشجية العميقة، التي يقول عنها الأديب العراقي جعفر عباس في تقديمه للجزء الثاني منها: “أول استنتاج توصلت إليه فور قراءة هذه الهمسات أن صاحبنا سلطان الحجار يكره المعلبات، وقرر من ثم أن يخرج علينا بنصوص تلغرافية مكثفة، لكن حبلى بالمعنى. ففي عبارات موجزة يقول لنا رأيه في الناس والعلاقات الإنسانية والاجتماعية.. هذا دفتر صغير الحجم لكنه كامل الدسم، ومع هذا فهو خال من الكولسترول الذي يصيب الدماغ بالإرهاق”.

من مقولات سلطان الحجار

سلطان الحجار

الحقيقة أن وصف عباس غاية في الصحة والدقة، إذ يتميز الحجار في هذا النوع من الكتابة تميزًا لافتًا، ليمنحنا “كبسولات” في كل شيء، وكل معنى، السياسة والمجتمع والتاريخ والدين والسمات البشرية والحالات النفسية، علاوة على نصائح موزعة في اتجاهات عديدة. وقد آثرت، في هذا المقام، أن اختار بعض هذه العبارات المصفاة لأبرهن للقارئ العزيز على ما أقول:

اضغط على الاعلان لو أعجبك
  • “كثيرة هي المجتمعات التي تعيش على فضلات الأخلاق”.
  • “السياسة قد تكون اللعبة الوحيدة التي يخسر فيها الطرفان”.
  • “اليوم الوحيد الذي لا تبكي فيه يوم موتك، لأن هناك آخرين يقومون بذلك”.
  • “لا تنظر إلى الجانب الآخر من الشاطئ، فالذين هناك قد يكونون أكثر سوءًا”.
  • “في الخريف تتحرر الأشجار من أوراقها، وفي الحياة هناك بشر يتحررون من جذورهم”.
  • “الديكتاتور شخص اعتاد على فرض رأيه، بعد أن اكتشف أن حوله أناسًا بلا رأي”.
  • “العازب إنسان عاقل، لديه يقين بأن المأذون يمثل خطرًا على حياته”.
  • “النكد بضاعة نسائية يتم طرحها في سوق الرجال فقط”.
  • “هناك من يصف المرأة بالمخلوق الضعيف، رغم أنها تنجب رجالًا يدمرون العالم”.
  • “إذا كان القانون لا يحمي المغفلين، فإننا جميعًا بلا حماية”.
  • “الصحافة الحكومية ورقة توت تمنع تعرية المسؤولين أمام الشعوب”.
  • “الحلاق يرى أن الصلع أخطر أمراض البشر على الإطلاق”.
  • “للأسف فلسطين الدولة الوحيدة التي تتفاوض مع المحتل تحت مبدأ ألا يغتصب كل أراضيها”.
  • “المجنون شخص فقد عقله نتيجة عدم قدرته على تحمل جنون الآخرين”.

هكذا ينهمر قلم الحجار بمئات العبارات على شاكلة ما سبق، وهو فن رائع رائق، قد تناقض بعض مقولاته بعضها، وقد تحوي حكمًا قاسيًا، أو انطباعًا عابرًا، لكنه في كثير من الأحيان يصيب كبد الحقيقة، وفي كل الأحوال يثير الخيال، ويعبر عن المتاهة التي يدور فيها الإنسان طيلة حياته، وهو يتقلب على أشواق إلى الحرية والجمال والحق والعدل.

مقالات ذات صلة:

بين الصورة والكلمة

«إيغون شيلي».. حين يصطدم الفن بالمرض!

نجيب محفوظ في صحبة المهمشين

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري