أسرة وطفل - مقالاتمقالات

الأمومة وطن.. والطفولة مستقبل

سئل أحد الأطفال أين تسكن؟ فنظر في وجه أمّه نظرة ملؤها الحب والوَلَه، ثم قال: بيتي حيث تسكن أمي.

حين يكون الإنسان صغيرًا تكون أمّه بالنسبة إليه وطنًا، فإذا كبر صار الوطن هو الأم، إنه الفضاء الذي يجمعه بأمه وأبيه، وإن بِرَّه بهذا الوطن يكون بالاستقامة الشخصية، إذ إن حاجة الأوطان ليست إلى من يضحي في سبيلها وحسب، وإنما إلى من يكف أذاه عنها.

الأم هي السجل الأول لحياتنا، فهي لا تحتضن وجودنا الخارجي وحسب، بل تحتضن أيضًا في ذاكرتها اللحظات الأولى من وعينا الغائب.

الأم أول وطن لنا

يقول توماس أديسون في مذكراته: “لقد اكتشفت مبكرًا في حياتي أن الأم أطيب كائن على الإطلاق، لقد دافعتْ عني بقوة عندما وصفني أستاذي بالغبي، وفي تلك اللحظة عزمتُ أن أكون جديرًا بثقتها، كانت شديدة الإخلاص، واثقة بي كل الثقة، ولولا إيمانها بي لما أصبحت مخترعًا أبدًا. إن أمي من صنعتني، لأنها كانت تحترمني وتثق بي، وأشعرتني أني أهم شخص في الوجود، فأصبح وجودي ضروريًا من أجلها، وعاهدت نفسي ألا أخذلها كما لم تخذلني قط!”، انتهى كلام أديسون.

ألا ترون أن هذا الوصف الذي أطلقه أديسون على أمه ينطبق على أغلب الأمهات، وإن بمستويات مختلفة؟ إنني أعتقد أن أغلب الأمهات يقدمن أقصى ما لديهن، ويضحين تضحية بلا حدود، وإن كان ذلك يتوقف على مستوى الوعي والإدراك لديهن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما القلب الذي تحمله الأم فيكاد يكون بكليته ملكًا لصغيرها، وما موقعه في صدرها إلا على سبيل الاستعارة. “إن قلب الأم لا يشيخ ولا يعجز ولا يهرم ولا يشيب”. كما يقول بيتهوفن.

إن الأم أول وطن لنا لأننا كنا بداخلها، والأم أول حب غير مشروط، وأول مدرسة تعلمنا منها كيف نبدأ حياتنا، الأم أول حضن، وأدفأ حضن، وأصدق حضن، الأم أول كنز نملكه، وأغلى شيء يمكن أن نخسره، الأم أقصر طرقنا إلى الجنة، ووجودها بحياتنا جنتنا على الأرض، واليوم الذي تغيب فيه الأم سنعرف المعنى الحقيقي للغربة.

دعوني أضع بين أيديكم هذه الإضاءات الثلاث على ما سبق طرحه:

الطفولة:

الأم أول وطن

إنه عالم الدهشة والتساؤل والصدق والصراحة، عالم لا يعرف المجاملات ولا التملق، عالم الحيوية الروحية والنفسية والعقلية والجسمية، عالم الحركة والاكتشاف والبحث عن الجديد، عالم دخل على الدنيا ويريد أن يعرف عنها كل شيء، لذلك تكثر أسئلته عن كل صغيرة وكبيرة.

هذا العالم عندما يُستقبل بحفاوة وحب، تتفتح مداركه وتواصل روحه حالة الصفاء والنقاء والسمو، ويواصل عقله حالة التفتح والاتساع، وتواصل نفسه حالة الطمأنينة والسكينة، وعندها يمكن اعتبار هذا الطفل الخارج إلى الدنيا مشروع إنسان عظيم، نبيل الصفات والقيم، ونكون بذلك قد صنعنا لبنة قوية في صرح مستقبل الوطن، ويمكنك أن تتخيل وطنًا يرفده كل بيت ببعض لبنات من هذا الصنف.

الأمومة:

إنه عالم العطاء بلا حدود، وعالم التضحية بلا مَن، وعالم البذل بلا أذى، عالم ملائكي في صورة “أم”، عالم تتدخل المشيئة الإلهية بوصله وقطعه (من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته)، هذا العالم الذي يعد أول مدرسة وأسمى مدرسة في حياة الإنسان.

في هذا العالم تتعرف الطفولة على ربها –سبحانه وتعالى– وعلى نبيها –صلى الله عليه وسلم– وعلى دينها العظيم، وعلى مبادئها وقيمها، وعلى عاداتها وتقاليدها وكل ما يتعلق بتراثها، تتعلم كل ذلك من أعذب لسان، ومن أرق قلب، ومن أوعى أذن، ومن أحن عين، فالطفولة لا ترضع من الأمومة حليبها فقط، بل ترضع كل مقومات حياتها المادية والمعنوية.

عطاء الأمومة ليس عطاء عاديًا، إنه عطاء ممزوج بالحب ومعجون بالعطف، تسكب الأمومة للطفولة بهذا العطاء كل ما يمكنك وما لا يمكنك تخيله، فهو عطاء لا يدخل تحت بند “الكم” حتى يمكن عده، ولا يدخل تحت بند “الكيف” حتى يمكن وصفه، إنه عطاء لا يعرف قدره إلا من وضعه في الأمومة، الله –جل في علاه– وهو الذي يجازي عليه.

الأمومة والطفولة:

الأم أول وطن

عنوان المستقبل، ففي عيون الأمومة نرى خطط المستقبل الواعد، وفي حيوية الطفولة نرى إشراق هذا المستقبل. الأمومة والطفولة محضن الصناعات المستقبلية، ومن يريد تأسيس المستقبل فليتوجه إلى مصانعه في الحاضر، فالأمومة صانعة المستقبل الناصع إن أحسن المجتمع الاهتمام بها والعناية بجوهرها، والطفولة مخرجات هذه المصانع العظيمة.

أنا لا أتحدث عن مصانع من حديد وحجر، بل عن مصانع من لحم ودم، ولا أتحدث عن مصانع تعمل بالكهرباء والنفط، بل عن مصانع تعمل بطاقة الحب والعطف، مصانع لا تتوقف عن العمل لتستريح، فراحتها في مواصلة العمل والعطاء، بعكس المصانع التي تعمل بدوام معين ولها إجازات محددة.

دور المجتمع في قضايا الأمومة والطفولة

مصانع الرجال العظماء والنساء الفضليات لا تشبه مصانع التعبئة والتعدين والتحويل. عندما يدرك أي مجتمع دور هذين العالمين (عالم الأمومة والطفولة)، فأنا على يقين بأنه قد ضمن أغلب حسنات الحاضر وكل ثمار المستقبل، ووضع قدمه على بداية خط التقدم والازدهار.

قد يقول قائل إن هذين العالمين أضعف عالمين في المجتمع، وكلامه صحيح، لكن يكمن في ثنايا هذا الضعف قوة جبارة، يمكن أن تبني الحاضر والمستقبل، ويمكن أن تدمرهما، والخيار في عملية البناء والتدمير يتوقف على من ينظر إلى هذين العالمين الضعيفين –كما يبدوان له– ولا يهتم بهما ولا يرشد ويوظف قوتهما الجبارة، التي لا يمكن أن يقف أمامها شيء، عمارًا أو دمارًا.

أيها الأعزاء، خريجي مصانع الأمومة ومؤسسي مصانع الطفولة: اهتموا بالمصانع التي أنجبتكم وقدموا لها كل الصيانة والعناية والرعاية، وأحسنوا إخراج لبنات صالحة تبني المستقبل، عندها ستكونون بارين بالأمومة التي أنجبتكم، بتحسين ثمار الطفولة التي ستنجبون.

مقالات ذات صلة: 

الثقافة المادية اليوم تطلب منا أن لا نتطور

تضحيات نسائية خالدة

لما أصبحنا نستنكر دور الأم؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.