العُنْفُ المُقَدَّسُ – الجزء التاسع
جَذْرُ شَجَرَةِ العُنْفِ أَنْ تَشْعُرَ بِالتَّملُّكِ .. اِدَّعَاءُ التَّملُّكِ مُنازَعَةٌ للهِ
إذا كان الإحساس بالتملك للعمل الشرعي جذر شجرة العنف فإن الإحساس بـالتميز جذع هذه الشجرة، إذ إن هذا الإحساس بـالتميز بالعمل الشرعي، نتيجةٌ حتمية لادّعاء تملكه من جهة، وسببٌ ومقدمةٌ لمختلف صور العنف من جهة أخرى، فالإنسان لا يشعر بـالتميز بشيء ما، إلا إذا كان متملكًا له من قَبْلِ هذا الشعور بـالتميز، فالرابطة بين التملك والتميز، وُثْقَى.
أما سبب إفضاء شعور التميز بالعمل الشرعي بالعامل إلى العنف يعود إلى أن الشعور بـالتميز بالعمل الشرعي يجرُّ العاملَ إلى خطأ مركب من وجهين، بمعنى أن أحد الوجهين يستلزم الآخر: الوجه الأول: الإعجاب بالعمل، أي أن العامل يتصور أنه أدّى العمل على الوجه المطلوب، ومن ثم يتوقع له حظًا كبيرًا من القبول، فيقع في المن على الله بحاله دون مقاله، والوجه الثاني: تحقير أعمال الآخرين مقارنة بعمله، فإذا كان الوجه الأول أمارة استعلاء للعامل بالعمل، فإن الوجه الثاني أمارة احتقار العامل للآخر، ما يمهد لإيقاع العنف على اختلاف صوره ودرجاته، بهذا الآخر.
أحد ابني آدم اللذينِ روى الله قصتهما في سورة المائدة، لم يُقْدِمْ على إنزال عنفه بأخيه قتلًا له إلا لأنه كان يرى، في قرارة نفسه، أنه متميز على أخيه، وما ذلك الشعور بالتميز بالعمل الشرعي من قبل القاتل إلا نتيجة تصوره أنه يتملك العمل (وهو القربان في الآية 27 المائدة)، من ثم بنى على ذلك ضرورة قبوله من قبل الله، وقد بيّن له أخوه المقتول في محاورته إياه، سرَّ القبول، حينما قال له: “إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)”.
إن كلمة “المُتَّقين” في هذا السياق لها دلالات خاصة تفوق دلالتها العامة المعروفة، تنبع هذه الدلالات الخاصة من ملابسات القصة، إذ إن كلمة المتقين هنا تشير إلى أناس يتحلون بصفات خاصة في علاقتهم بالعمل الشرعي (القربان)، أنهم يعلمون أن الأعمال الشرعية من قربان وغيره لا تُمْتلَك وإنما تُوهب، لا تُؤخذ كما يُؤخذ المغنم وإنما تُعطى كما تُعطى الأمانة، ومن ثم لا يمكن لهؤلاء المُتَّقين أن يدّعوا لهذه الأعمال تملُّكًا أو تميُّزًا، وهي الصفات التي يجهلها الأخ القاتل.
الأخ القاتل لما أُشرب قلبُه شهوتَي التملك للأعمال الشرعية والتميز بها، أخذت هاتان الشهوتان عنده تتمددان من مجال القربات المعنوي إلى مجال نفوس الخَلْق المادي، فراح يتسلط بهاتين الشهوتين على أخيه، متصورًا تملُّكَهُ لنفس أخيه كما يُتملَّكُ العملُ الشرعي، ومبررًا لنفسه قتله تحت غطاء تميزه الموهوم عليه، وهو التصور الذي لم يكن حاصلًا عند أخيه المقتول، ولذلك أكّد المقتول أنه لا يمكن له أن يتسلط على نفس أخيه القاتل حتى لو تسلّط أخوه القاتل عليه، وما ذلك إلا لأن الأخ المقتول بعيد كل البعد عن ادعاء صفتي التملك والتميز في علاقته بالعمل الشرعي، فضلًا عن ادعاء ذلك في علاقته بالمجال المادي المتمثل في قتل النفس، فقال له: “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)” المائدة، وهكذا أهل اللطف والافتقار إلى الله دومًا، هم أبعد الناس عن التسيّد على الناس والتسلط عليهم بصور العنف كافة، وذلك لابتعادهم عن ادّعاء التملك سواء أكان تملكًا للأعمال الشرعية أم كان للأمور المادية.
المتأمل في آية أخرى يجد مصداق ذلك، إذ يقول الله تعالى في القصص: “قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)”، القصص، فالآية الكريمة في بنيتها الدلالية العميقة قابلت بين الإصلاح والتجبر، فـ”الإصلاح” الذي في أساسه إرجاع التملك إلى الله بتحقيق العامل لتمام الافتقار له سبحانه، لا يمكن أن يلتقي مع التجبر الذي ينهض على استحكام صفة التملك من نفس العامل، وقد عبّرت الآية عن ذلك عندما رتبت فعل القتل، على التجبر وجعلت الأخير مقابلًا لـلإصلاح، فدلت بذلك على أن التجبر –بصوره كافة التي يُشكّل القتل أقساها– يقوم على أساس يختلف تمامًا عن أساس الإصلاح الذي منه اُشتُق المصلح، وما هذا الأساس في تصوري إلا أن التجبر ينهض على منازعة أصيلة لله في صفة التملك بخلاف الإصلاح الذي يقوم على اعتراف كامل من قبل العامل لله بصفة التملك إفرادًا وحصرًا، وإقرارٍ تام من قبل العامل لله بـالافتقار له سبحانه إرادةً وقسرًا.
هكذا فالعنيف دومًا كلما استبد به ادّعاء التملك والتميز داخليًا، زاد في أفعاله ظلمُ العنفِ خارجيًا حتى يصل به ذلك إلى القتل الذي يُمثّل أقسى صور العنف، فيصير هذا المدعي للتملك جبارًا في الأرض أي يُجبر الناس ويقهرهم بغيًا بغير وجه حق، فأدّى به ادعاءُ التملك إلى منازعة الله في اسم الجبار، وكأن الله يعاقبه لتطاوله على صفة ليست له (صفة التملك) بأن أعمى بصره وبصيرته عن عاقبة ادّعاء هذه الصفة من مظالم يقع فيها هذا المُدّعِي، ودليل هذا العمى عند العنيف أنه لا ينفك دومًا عن الندم على عاقبة ظلمه، وقد بيَّن اللهُ ذلك حينما وصف الله حال القاتل عقب قتله أخاه، فقال: “فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)”، المائدة.
بإيجاز: بقدر ما ندّعي التملُّكَ لأعمالنا نَعْنُفُ بمَنْ حولنا وبقدر ما نفتقر لله نَلْطُفُ بأنفسنا وبالخَلْقِ.
إذا كنتُ أشرتُ في هذه الكلمة إلى آثار الإحساس بالتميز بالعمل الشرعي على العمل تعظيمًا له وعلى الآخر تحقيرًا له، فثمة آثار سلوكية ونفسية وعقلية على العامل، منبثقة من هذا التميز المرضي أتطلع إلى استقصائها.
اقرأ أيضاً: كيف نطهر قلوبنا من الغرور بالحب
ادّعاءُ التَّميزِ والانتحارُ الوُجوديّ
إذا كان ادعاءُ التملك للعمل الشرعي مُفسدًا لما بين العبد وربه في السماء، لما فيه من منازعةِ العاملِ لله في صفة من صفاته، فإنّ ادّعاءَ التميز بالعمل الشرعي، قاطعٌ لما بين العامل وإخوانه في الأرض، لما فيه من عزلٍ للعامل عن محيطه الوجودي في أبعاده المختلفة على نحو ما سنعرف لاحقًا، الأمر الذي يعني أن هذا الادّعاء للتميز بالعمل، بداية النهاية لهذا العامل وتصوراتِه وأُفُقِهِ، كما أنها نهاية البداية الممكنة بين هذا العامل وبين محيطه بمَنْ فيه وما فيه.
إن الناظر المتأمل في شعور التميز بالعمل الشرعي باحثًا عن مكمن خطورته من ناحية تحليلية عقلية، يجد أنه بما يحمله من أفضليّة –منبعها ومصبّها واحد؛ العامل– يُمثّل اقتطاعًا وفصلًا للعامل عمَّنْ حوله بمَنْ فيه وما فيه، وهذا الاقتطاع، وإن كان جوهره واحدًا؛ انفصال العامل وعزله عن عالمه في وجوهه المختلفة، إلا أن آثاره متعددة بتعدد مستويات المرء منّا ما بين مستوى شعوري واجتماعي وعقلي وديني، وسوف نقف على آثار هذا الاقتطاع على تلك المستويات لاحقًا، وهي آثار في مجملها مدمرة للعامل ومن حوله.
إن هذا التميز المُدَّعَى من قبل العامل –في العمق– نوع من الانتحار الوجودي الذي يمارسه العاملُ على نفسه أولًا تضييقًا في الأفق وإفسادًا لتصوراته وأفعاله في الحال والمآل، كما يمارسه هذا العامل على محيطه الإنساني ثانيًا غِلْظةً في الأفعال وفظاظةً في الأقوال، ما يؤدي إلى تعطل الحوار والتواصل فتكون الحياة والموت سواء.
قصدي بكلمة انتحار وجودي هنا أن العامل بهذا التميّز الذي يدّعِيه وما يترتب عليه من تصورات وأفعال يكون كمن اختار الموت بديلًا عن الحياة، والاغتراب بديلًا عن الأُلفة، والانفصال بديلًا عن الاتصال، والهدم بديلًا عن البناء، والظلم بديلًا عن العدل، والجهل بديلًا عن العلم، والظلام بديلًا عن النور…
لأجل هذا كلِه، كان التحذير من خطورة تزكية النفس بادّعاء التميز بالعمل الشرعي، أصيلًا ومباشرًا في كتاب الله، “فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32)”، النجم، لما تُفضي إليه هذه التزكيةُ من إفساد لا يطال العملَ الشرعي فقط بل إنه ينال العاملَ بالعمل الشرعي ومَنْ حوله أيضًا، فيكون في تلك التزكية إفسادٌ لحاضر العمل والعامل، وتهديدٌ لمستقبل العامل ومَنْ حوله.
إن استحكام شعور التميز بالعمل الشرعي من العامل يتجلّى بوضوح على مرآة تصوراته وأفعاله الاعتقادية والاشتغالية التي تأتي كلها مصبوغة بصبغة تميُّزية، بيد أنني قبل أن أشرع في بيان آثار هذه الصبغة التميزية في تصورات العامل أولًا، ثم في أفعاله بصورتيها الاعتقادية والاشتغالية ثانيًا، أودُّ أنْ أُنبّه إلى أنّ لَبْسًا في اعتبار التميز بالعمل الشرعي انحرافًا من العامل، يقتضي رفعُ هذا اللبس تفريقينِ اثنينِ دفعًا لسوء الفهم وبيانًا لقصدي من الكلام:
(1) التفريق بين تميُّز العمل الشرعي والتميُّز بالعمل الشرعي: فالأول تميز العمل الشرعي في ذاته، لا خلاف على تحقُّقه، أما الثاني: التميز بالعمل الشرعي فهو محل حديثي هنا، هو مدخل الآفات للعمل الشرعي والعامل، إلا أنه حتى يستبين قصدي من تناول هذا التميز الثاني المرضي لا بد من وعي التفريق الآخر القادم.
(2) التفريق بين أمرين في التميز بالعمل الشرعي:
(أ) ادعاء العامل التميز بالعمل الشرعي سواء أكان ذلك بينه وبين نفسه أم كان بينه وبين غيره، وسواء أكان هذا الادعاء بالقول والفعل أم كان بالفعل فقط، وهذا الادعاء في وِجْهَتَيْهِ: النفسية والغيرية، أو صُوْرَتَيْهِ: القولية والفعلية، هو أمرٌ نفسيٌّ مُرْدٍ لصاحبه، وهو مقصد كلامي هنا بـ”آفة التميز بالعمل الشرعي”.
(ب) ما يلمسه العامل من تميز يتجلى في السمو الروحي الذي يشعر به بعد أدائه للعمل الشرعي، حيث الطمأنينة والأنس والسكينة التي يشعر بها العامل، وهذا شعور رُوحيٌ حقيقيٌ وصحيٌ، وكلامي هنا لا يقصد هذا الشعور، بيد أن العامل قد يقع بسبب هذا السموّ الرُّوحي في وَهْمِ التميُّزِ الذاتيّ المُهْلِكِ، فيتسرّب إلى نفسه أنّ له دورًا فيما يجد في قلبه من حلاوةٍ ومن ثَم تتملَّكُه الأوهامُ وتغزوه الآفاتُ زرَافَاتٍ وَوحْدَانًا، ودفْعُ ذلك بأن يعرف أن ما هو فيه من سموٍّ رُوحي أو تميُّزٍ صحي بأداء العمل، إنما أتاه من الله لسببين:
الأول: عناصر السداد والتأييد المبثوثة في العمل الشرعي من قِبَل الله الذي شرعه، فدخول العامل في العمل الشرعي على ما وضعه الله له من شروط وأسباب، لا بد أن يترك أثرًا طيبًا في العامل.
الثاني: أن ما يشعر به من تميز روحي بعد أداء العمل إنما هو من توفيق الله له أن يؤدي العمل.
بيّن اللهُ ذلك في قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)”، النساء، يُزكِّي مَنْ يشاء بما شرعه من طريقٍ للتزكية، وبتوفيقه لعباده أن يسلكوا هذا الطريق.
القادم استقصاء الآثار الفاسدة لهذا التميز المرضي على تصورات العامل أولًا، وأفعاله الاعتقادية والاشتغالية ثانيًا.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا