لحظة مصطفى كامل.. من حجبها؟ من أخفاها؟
لدينا في تاريخنا العظيم لحظات تستوجب من كل من يعنيه التدبر والتفكر والتعقل والتبصر أن يقف عندها، ويتأملها ويراجعها ويستدعيها ويقتبس منها ويقيس عليها، لأنها لم تكن لحظات دارت بذاتها حول ذاتها كما يقال، لكنها دارت بذاتها حول ذاتنا نحن، نحن الأمة التي هي مربط فؤاد الرسالة الأخيرة من السماء إلى الأرض، رسالة الإسلام.
القرآن الكريم يأمرنا أن نتذكر “أيام الله”، وكان طبيعيًا أن تكون هذه التوصية القرآنية في أهم التجارب الإنسانية وأخطرها وأشملها عبر كل قرون البشر وسنينهم، التجربة ذات العبر، التي لا تنتهي عِبَرها وعَبَراتها أيضًا، وهي تجربة بني إسرائيل والآية كانت في سياق مخاطبتهم (الآية 5 سورة إبراهيم).
لحظات في تاريخ أمتنا
لدينا لحظات وأيام في تاريخ أمتنا تعد فعلًا من “الأيام” التي ليست كباقي الأيام، لأنها فعلًا ذات وقع تاريخي كبير، أعقبه مسار تاريخي عريض وجديد، وتستدعي منا التوقف عندها والاعتبار بها، لأنها لم تنته فكرة وحدثًا، والأخطر أنها لم تنته أثرًا ونتيجة.
هل نتحدث عن “لحظة السقيفة” التي وصفها الفاروق وهو ينظر إلى المستقبل السياسي للأمة بكثير من القلق، قائلًا بأنها كانت “فلتة”؟!
التاريخ علميًا مليء بـالفلتات التي أمسكت بمساره ووجهته وجهة جديدة، لن نبعد كثيرًا عن وصف سيدنا عمر، قلقه تحقق، فسرعان ما ستأتي “لحظة معاوية” التي وجهت مسار التاريخ في اتجاه جديد.
كلما ازددنا تفكيرًا ازددنا عيشًا وحياة، ومن يريد أن يبصر فليبصر، ومن يريد أن يرى فليرى، ومن لا يريد كلاهما، ويريد أن يستغرق استغراقًا غروقًا مغروقًا في حاضره اللذيذ، له ذلك.
كلنا نمتلك إرادة حرة، وكلنا مسؤولون، وكلنا ميتون.
في ذكرى وفاة الزعيم مصطفى كامل
ستكون “لحظة الزعيم مصطفى كامل” الذي مرت الأيام السابقة ذكرى وفاته (10 فبراير 1908م) لحظة بين اللحظات التي راحت تنطفىء فيها كل الآمال، لحظة تحوى قدرًا هائلًا من القوة والحيوية والثراء الحركي والسياسي والفكري والديني، وهو ما يلفت نظرنا إلى تعثر كل محاولة تعمل على تذكرها واستدعائها، كأن هناك من يريد حجبها وإخفاءها! لما تحتويه وتقوم عليه من “الأفكار الصلبة”، رغم أنها من أقرب اللحظات إلى المزاج العام للمصريين.
المفكر والسياسي الكبير فتحي رضوان رحمه الله
كانت هناك محاولتان لاستدعاء تلك اللحظة، الأولى من المفكر والسياسي الكبير فتحي رضوان رحمه الله بشكل مباشر، والثانية كانت من الحركة الإصلاحية الكبرى تعاونًا منها مع الأستاذ فتحي رضوان، وضبطًا لمسارها.
المحاولة الأولى من الأستاذ فتحي رضوان (ت/1988م)، كانت ضعيفة لأنها جاءت في غير الأوان الصحيح سنة 1944م، والفكرة القلب فيها كانت سياسية وثورية ولم تشتمل على كل جوانب “الفكرة الأم”، التي أبدعها مصطفى كامل وطورها محمد فريد، تعليم/تربية/نقابات/ سياسة.
في المرة الثانية التي حكى عنها الأستاذ فتحي رضوان في إحدى مقالاته بجريدة الجمهورية في السبعينيات، جاءت أيضًا في غير أوانها، جاءت متأخرة للأسف.
ليست فقط متأخرة في الزمن لكن متأخرة في العلاج، إذ كان فريق “كم فينا وليسوا منا” الذي تحدثت عنه أدبيات الحركة الإصلاحية، كان قد اتسعت سعته وساعاته، وزادت سطوته وقواته، ناهيك بالاختراقات والخيانات.
لا تنس أن تقف انتباهًا لـ”الغل وحقد النفوس الملحاح”، ووفِّهِما الصفع والتركيلًا، مع الاعتذار لأمير الشعراء.
الرئيس أنور السادات
أما المحاولة الثالثة (الرئيس الأسبق السادات في يوليو 1978م) فكانت محاولة مسرحية بالغة الهزل، ليس فقط لأنه كان مطلوب منها وفيها وبها الهزل والهزء والمسخرة، لكن لأنها كانت مليئة بحصاد الأذى الطويل الذي عاناه المصريون، من تأميم حياتهم وأفكارهم وأحلامهم في الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي.
من يريد أن يحيا ويفكر ويحلم خارج قالب السيد علي صبري أمين الاتحاد الاشتراكي (ت/1991م) وزعيمه الخالد (ت/1970م) فسيدفع ثمنًا غاليًا جدًا، كالثمن الذي دفعه نقيب أطباء مصر سنة 1966م د/رشوان فهمي (ت/1975م)، الذي صدر له قرار جمهوري في 21/8/1966 بفصله من الاتحاد الاشتراكي، ومن جامعة الإسكندرية، ومن منصب النقيب، ووضعه هو وأسرته تحت الحراسة! كما ذكر لنا د/ مصطفى الرفاعي أستاذ المسالك بطب الإسكندرية في كتاب “خواطر طبيب”.
بالتالي فلا تجربة الرئيس السادات، ولا تجارب من كان في زمنه من السياسيين الأستاذ إبراهيم شكري والأستاذ فؤاد سراج الدين والأستاذ مصطفى مراد رحمهم الله جميعًا، ولا حتى تجارب اليسار والإصلاحيين كانت لتفعل شيئًا في دنيا السياسة، التي كانت قد امتلأت بالعلل والعورات والسوءات والخيبة وكل الإخفاقات، والأكثر من أصحاب السلاطة واللسانة و”صنعة الكلام”، على رأي الراحلة أروى صالح رحمها الله، في كتابها الأليم “المبتسرون”.
هنا نغلق الباب في وجوههم جميعًا ولنفتحه على “لحظة مصطفى كامل”.
اقرأ أيضاً: قاسم أمين والأميرة نازلي
مصطفى كامل أبو نهضة التعليم
لنقرأ: “وإني أتشرف بإعلان الجمهور أن التعليم في هذه المدرسة مقرون بالتربية، لأني أعتقد أن التعليم بلا تربية عديم الفائدة، بل ربما كان كثير الأضرار، وأقصد التربية الإسلامية المحضة، لأن أساس التربية الدين، وكل أمة يتربى أبناؤها على غير قواعد الدين تكون عرضة للدمار والانحطاط.
وقد عولت على جعل الغرض الأول من المدرسة ترقية المَلَكة الإسلامية عند التلاميذ، وتمكين مبادئ محبة الوطن والاتحاد والائتلاف من نفوسهم، وتقديم اللغة العربية على كل لغة.
مع ترك الحرية للآباء في الاختيار بين اللغة الفرنسية والإنجليزية، وأن يكون 30% من تلاميذ المدرسة من أبناء الفقراء وأن يكون تعليمهم مجانًا”، مصطفى كامل قال هذا الكلام في مارس 1899م، وهو يفتتح مدرسة في باب الشعرية بالقاهرة، ومتى؟ بعد 17 سنة من الاحتلال الإنجليزي.
كان فارسًا حقًا، كان حالة رائعة من التوازن بين الحلم والواقع.
اقرأ أيضاً: مصر التي في خاطري
اهتمام مصطفى كامل بالحياة الثقافية
مثل كل السياسيين الصادقين كان مثقفًا كبيرًا مُلمًا إلمامًا تامًا بكل قضايا بلاده، أمينًا مع منطق التاريخ، فكتب سنة 1899م كتاب “المسألة الشرقية”، وشرح أبعاد مشكلة الشرق الأوسط والدولة العثمانية، وحللها وتوقع مصيرها المفتوح على حرب كبرى حدثت بعد وفاته.
ليس هذا فقط بل ألف كتاب “الشمس المشرقة” عن اليابان التي انتصرت سنة 1905م على روسيا الإمبراطورية، وكتب مسرحية عن الفتح العربي للأندلس بعنوان “فتح الأندلس”، وأصدر جريدة يومية “اللواء” سنة 1900م، لتصبح أهم جريدة سياسية في عصره.
مصطفى كامل كان سياسيًا وحركيًا بامتياز، كون جمعية سرية (جمعية الحزب الوطني) مع أحمد لطفي السيد! وعدد من الوطنيين في منزل محمد فريد سنة 1905م، والتي ستتحول إلى حزب سياسي بعد حادثة دنشواي.
سافر إلى أوروبا وطاف بها شارحًا قضية بلاده والاحتلال الإنجليزي، وراسل “جلادستون” رئيس وزراء بريطانيا السابق ورد عليه، وكذلك الأديب الكبير “برنارد شو”، الذي آزره بقوة حين فضح كرومر في حادثة دنشواي، بل وأجبره على الاستقالة.
كانت مراسلاته ومخاطباته غاية في الرقي والقوة، ناهيك بخطبه في المناسبات، والتي كانت تعد عيدًا من أعياد المصريين.
ما بين سعد زغلول ومصطفى كامل
كان حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول (ت/1927م) بالغي الحرص للأسف على التعمية التامة على الفترة التي سبقت 1919م، ليوهموا المصريين أنهم “قاموا من الرماد”، ولم يكملوا ما بدأه السابقون!
رغم أن كل زعماء ثورة 1919م تقريبًا كانوا من تلاميذ الحزب الوطني ومن مريدي الزعيم مصطفى النحاس (ت/1965م)، بل وويصا واصف (ت/1931م) رئيس البرلمان الوفدي فترتين، والقبطي الذي عرفته الحياة السياسة من مقالاته في جريدة “اللواء”، ثم ليصبح بعدها من أقرب الخلصاء إلى مصطفى كامل ومحمد فريد.
لكن الإنجليز بقدراتهم التاريخية المعروفة في دنيا السياسية استفادوا من ثورة 1919م، وأعادوا توجيه بوصلة زعمائها بعد تجربتهم مع الحركة الوطنية الإسلامية ومصطفى كامل ومحمد فريد.
تكون حزب الوفد وامتلأ بالباشوات وجماعات المصالح، الذي سيطر على الحياة السياسية ما يقترب من ثلاثة عقود، متخليًا تمامًا وكليًا عن “الأفكار الصلبة” التي قامت عليها الحركة الوطنية الإسلامية من سنة 1900م، والتي تعتمد التعليم والدين جناحي الإصلاح في مصر كما قال مصطفى كامل: “تعليم الشعب حتى لا يبقى مصري واحد جاهلًا تحت سماء مصر”.
اقرأ أيضاً: نهضة مصر
وفاة الزعيم مصطفى كامل 10 فبراير 1908
يقول لنا الأستاذ طاهر الطناحي في كتاب “الساعات الأخيرة”: “صباح الاثنين 10 فبراير 1908م توفي مصطفى كامل، وكانت آخر كلماته: مسكينة يا مصر”.
كالبرق والبريق سرعان ما ظهر وسطع، وسرعان ما غاب بين السحاب، بعد 34 عامًا عمرًا، لكنه بقي وسيبقى على مر الأزمان بكامل صدقيته وأفكاره، لسبب بسيط للغاية أنه كان رمزًا خالصًا لحقيقة مصر، الحقيقة التي هي الواقع الأكثر عمقًا في التاريخ.
كانت جنازة مصر، جنازة قلب مصر، لم تشهد مصر لا من قبلها ولا من بعدها جنازة مثلها، كانت شعبية عارمة بكل المعنى، وأقيمت له سرادقات عزاء في كل البيوت والقرى والنجوع والمدن بطول مصر وعرضها.
رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي قائلًا:
المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني
يا خادم الإسلام أجر مجاهد في الله من خلد ومن رضوان
لأن الشعراء هم جهاز أعصاب الأمم والشعوب، فقد وصف لنا أمير الشعراء “لحظة مصطفى كامل” بأدق توصيف وأوفاه، إنه خادم الإسلام!
يقولون إن المياه لا تجري في نفس النهر مرتين هذا صحيح، لكن هذا لا يغير من طبيعة المياه ولا يغير من مجرى النهر.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا