كما نكون تكون تربيتنا .. الجزء الأول
يقول أحد الشباب: “حين كنت صغيرًا خرجت مع أبي في سيارته، وإذا بشيخ كبير في السن يعبر الشارع متوكئًا على عصاه، وقد تحوَّل لون إشارة المرور إلى اللون الأخضر، الذي يسمح للسيارات بالمرور، وهذا الشيخ المسن في منتصف الطريق، وقد انطلقت السيارات من حوله بسرعة فائقة، فما كان من أبي إلا أن أوقف سيارته، وقفز منها، وقام بدور رجل المرور، وأوقف السيارات، وأخذ بيد الرجل حتى عبر به الشارع”. يقول هذا الشاب: “أشعر أنني تعلمت من أبي درسًا في المبادرة والشهامة قد لا أتعلمه إذا قرأت في ذلك كتابًا مؤلفًا من ثلاثمائة صفحة!”.
المعلم والمربي .. صفات وواجبات
الأبوان في الأسرة سبب وجودها، وهما عمادها، وملحها، وماؤها، وهواؤها، ومن خصائصهما الشخصية، ومن نوعية العلاقة بينهما، ثم علاقتهما مع أطفالهما يتكون الجو الإنساني الروحي في المنزل، وأستطيع أن أقول بوضوح: إن التربية سهلة ومثمرة وناجحة إذا كنا نحن الكبار أشخاصًا جيدين، أو لنقل: إذا كانت الفجوة بين ما نقوله وبين ما نفعله ضيقة وضيقة جدًا، أما إذا كنا نطلب من أبنائنا الالتزام ببعض الفضائل التي لا نلتزم بها، ونطلب منهم الكف عن بعض السلبيات التي نقع فيها، فإن تربيتنا لصغارنا ستكون صعبة وعقيمة، ومخيبة للآمال.
إن الأطفال أذكى مما نظن، وهم يلاحظون أشياء كثيرة نعتقد أنهم غافلون عنها، ولذا كان تأثير الأستاذ في الطالب أعظم من تأثير الوالد، لأنه يرى أستاذه في أحسن أحواله، في حين أنه يرى أباه في جميع أحواله. وهذه مسؤولية تقع على عاتق الأب والمعلم في آن واحد، وبإمكان أحدهما أن يكمل عمل الآخر، فالمعلم في المدرسة معلم في صورة أب، والأب في البيت أب في صورة معلم.
أهمية المصداقية في شخصية المربي
لخطورة الدور الذي يمكن أن يقوم به الأب أو الأم أو المعلم، يمكن اعتبار الأب أو الأم أو المعلم الذي لا يصلي، ولا يهتم بشعائر الإسلام، وذلك الذي يدخن أمام أولاده أو طلابه، والمعلم الذي يضع الدرجات لطلابه دون تصحيح جيد لأوراق الإجابة، والذي يسبُّ طلابه ويعيرهم ببعض الأشياء، والمعلم الذي همه مديح نفسه، والذي يستخدم الطالب لقضاء حوائجه الشخصية… هؤلاء آباء وأمهات ومعلمون لا يقال فيهم: إنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوات لأبنائهم وطلابهم فحسب، بل إنهم يمارسون دورًا تخريبيًا، إذ يسممون الحياة الفاضلة التي يجب أن يجدها الابن والطالب في البيت أو المؤسسات التعليمية، كما أنهم يشجعون أبناءهم وطلابهم بطريقة خفية على الانحطاط الخلقي والسلوكي ويساعدونهم على تبخير ما بقي من هيبة واحترام للعلم وأهله.
إننا فعلًا نرسم من خلال سلوكنا اليومي مستقبل سلوك أبنائنا، بل إن الأمر يتجاوز ذلك، إننا من خلال البيئة داخل المنزل نعرِّف الطفل على ذاته، ونصنع نوعية طموحاته وتطلعاته نحو المستقبل، كما نحدد سقف تلك التطلعات وعتبتها، أي أقصى ما يريده الطفل، وأدنى ما يمكن الرضا به.
ما ضرر التذبذب في معاملة الأبناء؟
إن مصطلح تربية الأبناء، وفق تعبير الدكتور مسلم تسابحجي، مصطلح مضلل، لأنه يوحي بأنك ستمسك بأدوات معينة وتتجه بها نحو أبنائك لتربيهم، لتؤدبهم، لتصلحهم. وما صرت أفهمه عن التربية أنها تربية لذواتنا وتوجيه الأدوات التربوية لإصلاح أنفسنا وجعلها قدوة صالحة يتعلم منها الأبناء بلسان الحال وليس بلسانه المقال. بمعنى آخر، ما تريده من أبنائك، افعله أنت معهم ولا تطالبهم به.
ما قاله المربي المشهور جان جاك روسو يُعد نموذجًا للحيرة التي قد يقع فيها المربي، فقد قال مقولته المشهورة: “قبل أن أتزوج كان لدي ست نظريات لتربية الأولاد، ولما تزوجت وصار عندي ستة أولاد، تبخرت تلك النظريات، وصرت أبحث عن أسلوب جديد ونظرية جديدة لتربيتهم”.
هذه الحيرة التي عانى منها هذا المربي، يقع فيها كثير من الآباء والأمهات والمعلمين، فحين يكون المربون مذبذبين مضطربين يتصرفون بأشكال مختلفة تجاه السلوك الخاطئ نفسه، فمرة يكافئون عليه، ومرة يعاقبون، ومرة يصرخون، ومرة يتوعدون ويهددون، عندها سينشأ الطفل شديد التناقض دائم القلق لا يستطيع معرفة الخطأ من الصواب.
أبناؤنا مرآة لنا
هل نريد فعلًا أن ننقل القيم التي نؤمن بها إلى أبنائنا؟ إذن هناك شيء واحد يجعلنا نقوم بذلك خير قيام، أن نجذبهم إلينا، وأن يروا من أفعالنا صدقنا ومصداقيتنا، وعزيمتنا وإخلاصنا. وهذا هو الطريق الملكي للتربية الرائدة، التي من خلالها نحسن تربية أبنائنا من خلال رفع مستوى تربيتنا لذواتنا، فنصبح بالنسبة إليهم كالمرآة، كلما نظروا إلينا طالعتهم صورهم بوضوح، لأن المرآة التي أمامهم مستقيمة، وليست مقعرة أو محدبة.
إن رحلة تربية الأبناء على النحو الجيد سوف تبدأ من عندنا حين نقرر أن نربي أنفسنا، ونضغط عليها كي نربي أبناءنا، ومن غير هذه العزيمة فإن الخسارة ستكون فادحة.. وللحديث بقية.
مقالات ذات صلة:
علاقة الأسرة بالبناء الفكري للطفل
دور المعلم والأخطاء التي تواجه المجتمع
يظل ما تقوله البيئة المحيطة هو الأهم
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا