سيسيفوس كان يظن أنه يحسن صنعًا
رسم السابقون من البشر كيفية السير في دروب الحياة لمن يأتي بعدهم، وعلى البصير منهم أن يعي أقوالهم، ويدرك تجاربهم، ويستفيد من خبراتهم، حتى تكون رحلته في الحياة الدنيا سهلة ميسورة، وأفعاله فيها مقبولة، راضيًا فيها بما أنجزه، وراضٍ عنه الآخرون، لأنه عمل أشياء من أجل إسعادهم، وتيسير حياتهم. وعلى هذا يكون جزاؤه، بعد مغادرته لحياته، الفوز برضا الله ودخول جنته، لأنه قد أحسن صنعًا.
بالطبع هناك بشر يعتقدون أنهم يحسنون صنعًا، لكنهم في حقيقة أمرهم يخرّبون ويدمّرون وهم لا يدركون حقيقة ما يفعلون. وهؤلاء يمكن تشبيههم بالشخصية الأسطورية اليونانية “سيسيفوس”، التي ضرب بها اليونانيون الأقدمون المثل، لكل إنسان اهتم بأداء فعل، أو سعى لتحقيق غرض، وهو يعتقد أنه يسعى لأداء عمل هام وعظيم، لكنه في حقيقة أمره، ما هو إلا هراء لا يستحق السعي والمسعى، ولا حتى الاهتمام به والالتفات إليه.
إن شخصية سيسيفوس اليونانية الأسطورية القديمة موجودة بيننا الآن وعلى مر الأزمان والعصور، وبين كل الشعوب، القديمة منها والحديثة.
من هو سيزيف؟
يَعرف كثيرون سيسيفوس “Sisyphos” باسم “سيزيف”، وفي الأساطير اليونانية القديمة هو ابن لملك ثيساليا، ومؤسس لمملكة كورنثا. وقد نَسبت إليه بعض الأساطير ابتكار الألعاب البرزخية أو الإستيمية، تكريمًا لإله البحر بوسيدون.
اشتهر سيسيفوس بالذكاء، والمكر، والخداع، والجشع. وبسبب كثرة مشاكله واصطناعه للأزمات، واعتقاده في نفسه بأنه أمكر وأكثر ذكاء من الآلهة، وأنه ندٌ لها، فقد أمر زيوس، كبير الآلهة اليونانية القديمة، بأن يُكبل بالسلاسل الحديدية في عالم الموتى، إلا أنه استطاع الفكاك من قيوده وسلاسله وظُلمة عالم الأموات، وعاد ثانية إلى عالم الأحياء، وخداع البشر.
إزاء هذا التمرد والعصيان، والهروب من مُقدرات الآلهة اليونانية، يُصدر زيوس أوامره بإعادة سيسيفوس ثانية إلى عالم الأموات، وأن يُخدع وتزين له أفعاله. أنزل زيوس عقابًا قاسيًا أبديًا عليه، إذ كان على سيسيفوس أن يدحرج أمامه حجرًا، ويصعد به جبلًا، وقبل وصوله إلى القمة، يفلت منه الحجر ويهوي إلى الوادي، فينزل إلى الأسفل، ويأخذ الحجر ثانية ليصعد به نحو القمة، لكنه قبل وصوله يفلت منه ثانية ويسقط، فينزل ليحضره، وهكذا على الدوام. يداوم سيسيفوس على أداء عمله، ويهتم بتنفيذه، مُعتقدًا فيه العمل الأهم والأكثر فائدة.
أسطورة سيزيف والمعنى وراء العبثية
على مر العصور حاول المفسرون للأساطير وضع تفسير وتأويل لأسطورة سيسيفوس، فرأوا أن سيسيفوس والسائرين على دربه، مثلهم مثل أمواج البحر، تتصاعد الأمواج تلو الأمواج صباحًا ومساء، وكل يوم، وكُلما نظرنا إلى البحر، لم تزد مياهه ولم تنمح ملوحتها، كما أن الأمواج لم تتوقف عن الارتفاع والانخفاض.
صار سيسيفوس رمزًا لكل فعل عبثي غير هام، مع كونه في غاية الأهمية في نظر المهتمين به. كما أنه صار رمزًا للسعادة الوقتية اللحظية، التي يشعر بها الإنسان السيسيفي عندما يصل إلى غرضه، والذي كثيرًا ما سعى إلى تحقيقه، وبذل كثيرًا من الجهد، وأضاع كثيرًا من الوقت من أجل تنفيذه والوصول إليه. فالطامح في منصب أو كرسي، فإنه يطمح فيما طمح فيه سابقون، وصلوا إليه ثم غادروه، ولم يأخذوه معهم. أو كالطامح في تناول وجبة شهية فاخرة، يتناولها وبعد فترة وجيزة جدًا يذهب لقضاء حاجته، ويُخرجها، ثم يطمح في أخرى، وهكذا…
إن سيسيفوس رمز أسطوري تحذيري، أتى به اليونانيون السابقون لتحذير اللاحقين من اللهث خلف ما لا يفيد أو ابتغاء ما لا طائل منه، حتى لا يكون الخسران المُبين هو الجزاء في الحياة وبعد الممات.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا