أعمال صغيرة كبيرة
الأعمال الحياتية تنقسم حسب تقسيماتنا ونظرتنا البشرية المتعجلة إلى أعمال عظيمة، نتسرع في إعطائها الأهمية القصوى ونبالغ فنصفها بأنها “الوحيدة” ذات الأهمية، ولأنني مشغول في الآونة الأخيرة بإعادة النظر في معاني كثير من الكلمات، والكلمات تترجم الأفكار، فإعادة النظر إلى الكلمات هي إعادة نظر إلى الأفكار.
مهن أساسية في حياتنا لا يمكن الاستغناء عنها
تعالَ نتأمل معًا معنى عمل صغير أو غير ذي أهمية قصوى، فمثلًا تأمل عامل نظافة في مدرسة ابتدائية تغيب لأسبوع كامل، لم ينظف مجموعة الفصول التي تحت يده، ولم يرمِ سلال المهملات، ولم يمسح مقاعد التلاميذ، تأمل غيابه لشهر أو فصل دراسي كامل، وتخيل ما وضع فصل الدراسة بالنسبة إلى الطلاب أو المعلمين، وكيف يمكن أن تُنجز عملية التعليم.
قسْ على ذلك عمال النظافة في العيادات والمستشفيات، وأثرهم على قيام الجراحين والأطباء بعملهم، مع أنك للوهلة الأولى قد تظن أن الجراح هو صاحب الأهمية الوحيدة في معالجة المريض، تأمل مثلًا خلو عيادة باطنة من ممرض أو ممرضة يعطي الحقن، ومعلم المرحلة الابتدائية في مقابل معلم فيزياء في الثانوية أو أستاذك في الجامعة الذي تأثرت به، مع أن معلم اللغة العربية في المرحلة الابتدائية هو الذي فتح الغرفة المظلمة في عقلك وعلمك أول كلماتك، علمك السحر العجيب، علمك اللغة.
خطوات صغيرة ساهمت في تغيير الحياة للأفضل
أحيانًا لا يتوقف الأمر على الوظيفة أو العمل، بل على نوع العمل، فمثلًا من منا يمكنه أن يتساءل عن أهمية أن تناولك أمك كوبًا من الماء أو تقدم لك الغداء، أو تجد قميصك نظيفًا في دولابك؟ إنه عمل روتيني اعتدت عليه، لكن تخيل أنك مسافر وليس معك ماء تشربه ثم قدم أحدهم لك كوبًا من الماء بعدما استبد بك العطش!
تخيل أنك طالب في مدينة جامعية وسهرت ليلة دراسية شاتية باردة تذاكر، وشعرت بالجوع بعدما أغلق مطعم المدينة الجامعية أبوابه ولا تستطيع النزول من غرفتك، ثم أعطاك زميلك شطيرة كانت معه!
الأعمال الصغيرة السحرية هامة جدًا لاستمرار الحياة، وللأسف نحن لا ندري أهميتها؛ نظافة الشوارع، تنحية حجر من طريق السيارات، أو تنبيه المسافرين لحفرة في مكان مفاجئ وما يمكن أن يسببه من ضرر، زراعة شجرة في مكان مناسب وأثرها على البيئة، إعطاء شخص شربة ماء، مساعدة شخص في حمل حقيبة، انتظار سيدة مسنة لتعبر الطريق أو تنزل من سيارة أجرة، القيام لشخص أكبر منك سنًا أو سيدة حامل في الحافلة، المساعدة في المنزل بأي شيء تستطيعه مثل إلقاء القمامة، شراء البقالة، المحافظة على نظافة الصالة بعد مباراة فوق صفيح ساخن لفريقك المفضل، إعطاء المحاضرة لزميل متغيب لم يحضر، زيارة زميل لك مريض، الوقوف معه (ليس الرقص معه في قاعة الاحتفال) في زواجه، مساعدة قريب لك كبير في السن في بعض حاجاته…
اقرأ أيضاً: تغييب الوعي لا شعوريا واستيراد الطاقات السلبية
للإخفاقات الكبيرة خطوات صغيرة
هل تتخيل الآن حجم الأشياء الصغيرة التي نغرق فيها جميعًا أفرادًا وأسرًا وأصدقاء ومجتمعات؟ هل تتخيل الآن أنه لو عاش كل فرد منا منعزلًا لنفسه فقط، دون القيام ببعض الأشياء الصغيرة لغيره، ودون أن يقوم الآخرون بتقديم أعمال صغيرة لك كيف ستكون حياتنا؟
الآن تستطيع أن تدرك أن الأمور لا تسير حسب تفكيرنا الضيق في اهتماماتنا فقط، بل الحياة هذه آلة كبيرة جدًا يمكن لترس صغير أن يوقفها، وكذلك إذا تعطل، أو مسمار صغير.
فلو قلت لك الآن أن هذه الأعمال الصغيرة، بل كل عمل في الحياة كل شيء تقريبًا له أثر على حياتك لصدقتني، الآن أيضًا ستفهم أضرار الأشياء الصغيرة الضارة بداية من إلقاء ورقة في الشارع، تخيل أنك ترمي كل يوم ورقة على الأرض في غرفة نومك مثلًا، أو ملعقة من الأرز ترميها لأنها تبقّت منك على الغداء أو قطعة خبز أو ربع كوب ماء، أو أنك تجمع في زجاجة كل يوم نصف جنيه، نهاية بشعورك بالفراغ فقررت أن تنزل من البيت تضيع وقتًا، هذا الوقت من عمرك أنت.
خطوات صغيرة غيرت المفاهيم إلى الضد
هنا أيضًا يمكن أن تفهم اعتراض البعض على مسرحية مدرسة المشاغبين، فمع أننا ضحكنا على مشاغبة المشاغبين (وخاصة بعد 14 سنة خدمة في ثانوي، وقد نسأل كيف يضحك إنسان على تضييع أربعة عشر فرصة متتالية؟!)، إلا أننا لم ننتبه أن التسامح مع المشاغبة من جهةٍ ما طرح احترام المعلم أرضًا، لكن لا تنس لقد ضحكنا، وغنينا “مفيش صاحب بيتصاحب” فلم ننتبه أبدًا أن ذلك عمَّق شعور فقدان الثقة بمفهوم الصداقة، لماذا كل هذه الجلبة: إنها أغنية، إنها أعمال صغيرة؟
إن تغيير المعاني بصورة يسيرة يفضى بها حتمًا إلى تغيير مفاهيمنا تغييرًا كبيرًا، ولنا لقاء آخر عن المعاني في حياتنا.
رجاء: أرجو منك أن تفكر الآن في معاني أغانيك المفضلة، أو بعض لافتات الشوارع والمحلات، أو في الحوار في فيلم تشاهده، انتبه للمعاني من زوايا مختلفة، وضع نفسك مكان معلمك والطلاب يشاغبونك إلخ.
مقالات ذات صلة:
ثقافة التغيير بين النظرة السطحية والنظرة العقلانية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا