فن وأدب - مقالاتمقالات

أريد ساقًا أقف عليها

مؤلف هذه الرواية هو الكاتب الإنجليزى أوليفر ساكس، الذي توفي سنة 2015 عن 82 عامًا، وهو أستاذ علم الأعصاب والطب النفسي في جامعة كولومبيا. هاجر إلى الولايات المتحدة وكافح حتى حصل على مناصب في عدة جامعات، ولاقت مؤلفاته رواجًا، وعُدت بعض كتبه مصدرًا للإلهام والإبداع، حتى استمدت بعض الأفلام والمسرحيات أعمالها منها، ولقبته صحيفة التايمز الأمريكية بشاعر الطب المعاصر، وكانت مؤلفاته نقلًا لخبرته الطبية في التعامل مع مرضاه، كان ساكس شديد الاقتناع بالقدرات الكبيرة للعقل البشري، فوصف العقل بأنه أكثر شيء مدهش في العالم.

رواية أريد ساقًا أقف عليها

ننصح بقراءة رواية “أريد ساقًا أقف عليها” لأوليفر ساكس، فهذه الرواية قد تكون الأكثر تميزًا بين مؤلفاته من الناحيتين الفكرية والإنسانية، وأنت تقرأها قد تجد المعاني تتداخل بذهنك وأحاسيسك ممتزجة بكثير من الأسئلة الملحة والتشوق للإجابة عليها، فتشرد عن القراءة لتعاود قراءة ما شردت عنه، صحيح أنه يسهب في الوصف أحيانًا أو كثيرًا، لكن إسهابه لن يزعجك كثيرًا فهو ممزوج بالمشاعر الصادقة التي تجد نفسك تشاركه إياها بكثير من الحب والتعاطف.

هو ماهر في سبر أغوار النفس البشرية، خصوصًا حين تمر بمحنة المرض الذي يقعدها عن الحركة، وستتأكد وأنت تقرأ من حقيقة أنه كم هو جميل أن يكون لدى المؤلفين القدرة على تحويل تجاربهم المؤلمة إلى إبداع وإلى معنى يفيد البشرية كلها، إلى قيمة حقيقية تقدم للقارئ لتظل في جعبته للأبد، لأنه قد يأتي الوقت ليجد نفسه أحوج ما يكون إلى هذه القيمة.

إذ ستلفت نظرك بشدة في هذا الكتاب قدرة المؤلف على صياغة تجربته بطريقة إنسانية هادفة، وتقديمها ثقافة ومعرفة تصلحُ لكل المناسبات. فهو بسلاسته المعتادة شرح أهم الأفكار عن المرض العصبي ونقلها إلى القارئ، في هذا الكتاب يتحدّث عن تجربته بصفته مريضًا وليس بصفته طبيبًا، ولا يخفي أوليفر ساكس أنّه تعلّم أكثر عن الطب والمرض من خلال هذه التجربة، وعن الألم الإنساني، وعن الطبّ العصبيّ والنفسيّ بشكلٍ عام، ببساطة فقراءة هذا الكتاب قد تجعلك تعشق الأدب الطبيّ.

نبذة عن رواية أريد ساقًا أقف عليها

أريد ساقًا أقف عليها

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تبدأ الحكاية من قبل إصابة دكتور ساكس مرورًا بإصابته وتعافيه وما مر به، وفترة نقاهته وانتهاء بالسنوات التي تلت الإصابة، وحتى لو كانت هذه التجربة هي فقدان الشعور بساقك وعيش أسوأ سنوات حياتك التي تصبح فيها عاجزًا عن استخدام موهبتك ومهاراتك وعلمك ومعرفتك، فسوف تتعلم من الملل واليأس والظلام لتخلق النور من كل ذلك، النور الحقيقي.

هذا المرض يمكن أن يصيب أي إنسان، لكن ليس باستطاعة كل إنسان أن يعبره بهذه الطريقة المدهشة النابضة بالحياة، فحين يصف الكاتب هذه الإصابة بصفته مريضًا وطبيب أعصاب ومحللًا وأديبًا موهوبًا فسوف تكون النتيجة هذا العمل القوي الجميل، فالأحداث مستمدة من التجربة التي تعرض لها الكاتب إثر إصابته في قدمه عندما كان في رحلة لتسلق الجبال في النرويج، وتشرح الحالة النفسية الصعبة التي كان يمر بها، خاصة أنه قطع المسافات الطويلة على ساق واحدة ليصل إلى منطقة مأهولة ليتلقى الإسعاف.

الرواية انعكاس لسيرة أوليفر ساكس

وصف للقارئ تفاصيل الإصابة والأفكار التي كانت تدور في عقله، وكيف أنه لم يستسلم. ومع أنه طبيب ماهر فقد عبّر عن الحالة النفسية المؤلمة التي مر بها وهو مريض بالاضطراب العصبي الإدراكي الذي يصاحب الإصابات الحرجة في أحد الأطراف أو بعضها، إذ لم يتوقع رغم علمه الغزير أن تكون الحالة النفسية للمصاب بهذا المرض سيئة لهذه الدرجة، ثم يروي كيف كان يتلقى العلاج وعلاقته بطبيبه المشرف على حالته، ومشاعر اليأس التي خيمت على نفسه خلال تلك الرحلة.

استخدم أسلوبًا في الحكي يجعل القارئ يشعر شعورًا كاملًا بمعاناته، إذ تعد هذه الرواية جزءًا من السيرة الذاتية لأوليفر ساكس، وهو فيها يدعو إلى صيحة جديدة في علم الأعصاب من أجل الاستعاضة عن الأعضاء الصناعية الميكانيكية بأعضاء أكثر تطورًا.

كم كانت مشاعره صادقة في كل كلمة لأنها تجربة عاشها بالتفصيل، فجاءت في الرواية تعبيرات تُظهر روعة التجربة التي خاضها رغم قسوتها، لتجد نفسك أمام حقائق مدهشة من الناحية الإنسانية والعلمية معًا، فالحقيقة الطبية هنا مكتوبة بأسلوب لا ينفصل عن الشعور الإنساني.

اقتباسات من رواية أريد ساقًا أقف عليها

أريد ساقًا أقف عليهايقول مثلًا: “هكذا ليست هناك ضرورة لتعليم الفاقدين سيقانهم أن يستخدموا العكازات، فالأمر يأتي بشكل بديهي وطبيعي، كما لو كان الشخص يتدرب عليه سريًا طول حياته، إذ يملك الكائن الحي أو الجهاز العصبي ذخيرة هائلة من الحركات الحيلية والحركات الداعمة من كل نوع، وهي استراتيجية آلية تمامًا تحفظ “لوقت الحاجة”، فنحن ليست لدينا فكرة عن الموارد الكامنة داخلنا، بل نفاجأ بها عندما نراها تُستَدعى عند الحاجة”.

ستجد أن محنة المرض قد وهبت الكاتب كثيرًا من التأمل والحكمة، ويزداد يقينك بذلك كلما تعمقت في القراءة، هو يقول مثلًا: “لقد انسحبت من عالم كل شيء قابل للمعرفة. لقد انسحبت من المكان، ومن الزمان أيضًا، لا يمكن لأي شيء الآن أن يحدث أبدًا، الويل للذي يكون وحده عندما يقع وليس معه أحد ليساعده على النهوض، كل المشاكل تبدأ عندما ينسى الناس أنهم بشر، لا أشعر بالوحدة أبدًا عندما أكون مستمتعًا بوقتي، كن صبورًا، تحمّل، انتظر، كن ساكنًا، لا تفعل شيئا، لا تفكّر، يا له من درس صعب ومتناقض للتعلم.

يفترض الأطباء أن مرضاهم أغبياء، وليس هناك أحد غبي، لا أحد غبي، باستثناء الحمقى الذين عدّوهم أغبياء، لقد كان أفلاطون محقًا عندما قال إنه من أجل أن يصبح المرء طبيبًا حقيقيًا، لا بد أن يكون قد اختبر جميع الأمراض التي يأمل أن يعالجها، وجميع الحوادث والحالات التي سيشخصها، يمكننا أن نرى بسهولة في الآخرين ما لا نهتم أو نجرؤ على رؤيته في أنفسنا، من السهل تذكُّر الأمور الجميلة في الحياة، الأوقات التي يبتهج فيها قلب المرء وينفتح، حين يكون كل شيء مطوّقًا بالعطف والحب، إذا كان لدينا الصبا والجمال والقوة والموهبة وإذا وجدنا الشهرة والثروة والحظوة والرضا، فمن السهل أن نكون لطفاء، وأن نلقى العالم بقلب ودود، لكن دعنا فقط نفقد واحدة، الصبا أو الجمال أو… حينها فقط ستُمتحَن قوة احتمالنا، وشخصيتنا الأخلاقية، إلى الحد الأقصى”.

مقالات ذات صلة:

من خلف النظارة السوداء

رواية “احتياج خاص”

نقد نظرية “موت المؤلف”.. لرولان بارت

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف