الذكاء الاجتماعي
تقام جسور الحوار والتفاهم والإقناع والمحبة مع الآخرين بمدى القدرة على التواصل الفعال معهم، إذ لا يمكننا أن نصل إلى قلوب الناس بكثرة المال أو جمال الخلقة أو علو النسب أو المكانة الاجتماعية، بل نصل إلى قلوبهم بفن التعامل، وحسن التواصل، وارتقاء الخُلق، وغير ذلك من القيم الراسخة التي أسسَّت لها تعاليم الدين.
إننا نستطيع أن نكسب قلوب من حولنا بابتسامة تأسر الأرواح، بمصافحة تسقط الضغينة، بود يحرك لواعج النفس، بإخلاص يلامس شغاف القلب، وهو ما يشكل في مجموعه مهارات الذكاء الاجتماعي التي تعكس القدرة على بناء علاقات متينة مع الآخرين، واجتياز الحواجز التي تقف دون تآلف القلوب.
مفهوم الاتصال الفعال
أهم عنصر لتحقيق هذا التواصل الفعال وجود مساحة مشتركة بين طرفي الحوار، للتحرك فيها بين الأخذ والعطاء، بتبادل المحاورة بشكل إيجابي، وذلك لأن الاتصال من طرف واحد دون تفاعل يؤثر في عملية المشاركة الفاعلة بين الطرفين، فالفتور نتيجة حتمية لنقاش اثنين لا مساحة مشتركة بينهما، وهذا الفتور قد يوصل إلى الملل من إكمال الحديث.
التواصل الفعال لون من الذكاء الاجتماعي، يؤدي إلى إذابة الحواجز بين الناس، وتحقيق نوع من الانسجام والتفاهم.
أدوات الاتصال الفعال
إذا كانت أدوات الاتصال الفعال تعتمد على ثلاثة أركان رئيسة: المرسِل، والمستقبِل، والرسالة، فإن افتقاد عنصر من هذه العناصر يُحدث خللًا عميقًا في منظومة التواصل، وهو ما يطرح معه سؤالًا حول موطن الأهمية في مكونات هذه المنظومة.
في واقع الأمر إن الأهمية تتساوى في المقومات أو العناصر الثلاثة، فقد يكون المتكلم منفّرًا في أسلوبه، وقد يكون المستقبل منفّرًا في طريقة استقباله للرسالة بتهاونه أو سخريته، وقد يكون التنفير في الرسالة بأسلوبها المستفز.
إذا كان من ضرورة لترجيح أيٍّ من هذه العناصر، فإن “الرسالة” تفضلهما، إذ تحتاج “غاية” الوصول إلى المتلقي إلى “وسيلة”، وهي الإطار الذي يضع فيه “المرسِل” رسالته، أي أسلوب الطلب أو أسلوب الحوار، فقد يكون الأسلوب منفّرًا، من استخدام المتكلم طريقة الأمر المباشر الجاف، أو استخدام إيماءات منفّرة مثل حركة يد أو نظرة عين أو إعراض بالجسد، إلى غير ذلك.
لقد نهى القرآن الكريم عن مثل هذه الأفعال، إذ قال تعالى: “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)”، سورة لقمان، كما ذكر من صفات المجرمين الغمز واللمز في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)”، سورة المطففين، وقال تعالى: “وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)”، سورة القلم.
شروط الاتصال الفعال
للوسيلة أدوات، تتبلور في عدة محاور:
المحور الأول: مفردات اللغة
لغتنا العربية لغة ثرية ولّادة تحوي آلاف المفردات اللغوية، فهل تعجز وأنت أمام لغة بهذا الثراء أن تتخير مفرداتك التي تتناسب والموقف دون أن تجرح أحدًا أو تسيء إليه؟
المحور الثاني: نبرات الصوت
صوت الإنسان هو بوابته إلى العالم من حوله، وهو بوابته إلى قلوب الناس، فنبرة الصوت هي التي تحقق تفاعل الناس معك سلبًا أو إيجابًا، وتجعل المتلقي ينصت إليك، وتجعل الحوار يسير في شكل مقبول، وبعكس ذلك تفعل نبرة الصوت المرتفع المستفزّ.
المحور الثالث: لغة الجسد
نسبة كبيرة جدًا من عملية التواصل تقوم على حركات الجسد وتعبيرات الوجه وإشارة اليد.
أهمية الاتصال الفعال
إن أسلوب الإنسان مصدر سعادته أو شقائه، فقد تفتح الكلمة الطيبة أبوابًا وقلوبًا وتجعلها مشرّعة على مصراعيها، وقد تغلق كلمة خبيثة كل الأبواب والقلوب.
قد يتسبب الأسلوب في نفور الناس وابتعادهم، وهنا يتولد لدى الإنسان –الذي لا يحسن توظيف الأسلوب– شعور بالوحدة أو العزلة أو رفض المجتمع المحيط له، وهذا الشعور القاسي لا يتولد من فراغ الناس من حولك فقط، وإنما بعدم قدرتك على التفاعل والتواصل مع من حولك.
من هنا حثنا ديننا الحنيف على حسن الخلق، فقد اشتملت سورة “الحجرات” –إضافة إلى غيرها من سور القرآن الكريم– على قيم اجتماعية راقية في كيفية التعامل مع الآخرين من خلال الدعوة إلى الإخاء، والابتعاد عن سوء الظن والسخرية.
أيضًا بيّنت لنا السنة النبوية المطهرة أن اكتساب قلوب الناس، والحصول على أعلى درجة من الاتصال وحصاد الأجر والمثوبة مرهون بحسن الخلق وبسط الوجه، يقول رسولنا (صلى الله عليه وسلم): “تبسمك في وجه أخيك صدقة” ([1])، ويقول صلى الله عليه وسلم: “أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا” ([2]).
اقرأ أيضاً: ثقافة الحوار والحوار الثقافي
تعرف على: أخلاقيات الحوار
اقرأ أيضاً: ثقافة الاعتذار
مهارات الاتصال الفعال
لا ريب في أن العلاقات الجيدة تقوم على عدة أسس ترتكز في: التعاون، والتفاهم، والانسجام، والتسامح، والتجاوب.
كما تقوم عملية التواصل الفعال في المقام الأول على تحدي الذات، ومواجهة شعور “الأنا” الذي يسيطر على كثير من الناس، وكذلك مجابهة الانحراف السلوكي بالنظر إلى الناس من منظور مرتفع.
كما تجدر الإشارة إلى أن هناك مهارة أخرى في التواصل لا تقل أهمية عن سالف حديثنا تكمن في “سماع ما لا يقال”، فقد يطلب منك إنسان شيئًا دون أن يتكلم، تلحظ ذلك من نظرات عينيه أو تعابير وجهه، وهذا يتطلب وعيًا بدورنا تجاه غيرنا وشعورًا بهم، وهي مهارة ترتكز على أسس من الفهم والذكاء وحسن التواصل.
بالتالي تستطيع فهم من حولك بكل بساطة، تعرف ما يرضيهم وما يغضبهم، فالإنسان كائن عاطفي، والطريق الأمثل لكسبه يكمن في حسن المرور إلى العاطفة والضرب على وترها دون المنطق أحيانًا، فحتى تفهم المحيطين بك لا بد أن تأخذ أدوارهم: ماذا تريد؟ وبماذا تهتم؟ وما الذي يرضيك؟ وما الذي يغضبك؟
ساعتئذ ستعرف أن من حولك لا يقلون عنك، لأنهم يبحثون أيضًا عما يريحهم ويرضيهم، فلماذا تستبيح لنفسك ما تحرمه على غيرك؟ إذا كانت الكلمة القاسية تغضبك فلماذا تقبلها لغيرك؟ إذا كانت الإشارة النابية تؤذيك فلماذا تستعملها مع غيرك؟ وإذا كان التجاهل يحرجك ويجرحك فلم تتجاهل غيرك؟
معوقات الاتصال الفعال
علينا أن نلحظ أن المقاومة تغري بالمقاومة، وكلما زادت المقاومة زاد الصراع، وتطورت الأزمات، وانقطعت العلاقات، فعلى الإنسان أن يكون مرنًا في معاملاته، هيّنًا ليّنًا في كلامه.
كان معاوية بن أبي سفيان يستخدم أسلوبًا نفسيًا جميلًا في تعاملاته، حينما كان يقول: “أتخيل أن بيني وبين الناس شعرة، إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها” ([3]).
إن الحياة قائمة على الأخذ والعطاء، والخروج عن حدود الذات هي بداية التواصل الحقيقي مع الناس، يقول الحبيب (صلى الله عليه وسلم): “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ([4])، ويقول أبو الفتح البستي:
مَن كان للخير منَّاعًا فليس له عند الحقيقة إخوان وأخدان ([5])
كما يقول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فلطالما استعبد الإنسان إحسان ([6])
إن التواصل الداخلي مع النفس هو الطريق الصحيح للتواصل مع الناس، وهؤلاء الذين يتعللون لسوء معاملتهم مع من حولهم بمشاكلهم الذاتية وهمومهم يغفلون عن حقيقة مهمة، أن الهموم والمشاغل والمشاكل والحرص على الكرامة وعدم المساس بها والنيل منها قاسم مشترك بين بني البشر.
فوائد الاتصال الفعال
القاعدة الأساسية في نجاح أي حوار هي: “أنا وأنت، ما أقبله لنفسي أقبله لك، وما أرفضه لنفسي لا أرضاه لك”، لأن أول المستفيدين من الإحسان إلى الناس هم المحسنون أنفسهم، لأنهم يجنون ثمرات الإحسان عاجلًا وآجلًا، عاجلًا فيما يرونه من محبة الناس، والشعور بالسكينة والانشراح، وآجلًا فيما يجدونه عند الله من أجر عظيم، ومحبة خالصة ” وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)”، سورة البقرة.
إذا أردت أن تنجح في اكتساب قلب إنسان، فحاول أن تُخاطب الجوانب الإنسانية فيه، وسوف تلحظ أنه يفاجئك بأكثر مما تتوقع من الأدب والاحترام والقبول.
إن اكتساب قلوب الناس مهارة قد تكون سببًا في إغاظة الشيطان ورد كيده، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت” ([7]).
علينا أن نحاول رأب الصدع بيننا، باحتواء الآخرين، وإصلاح أمورهم وحسن التعامل معهم، لنكون سببًا في غيظ الشيطان.
فضيلة عظيمة أن تكون مهذبًا يحبك الناس، أن تكون أنموذجًا للإنسان المسلم في سلوكه وطباعه وتعامله مع من حوله، وتلك هي إحدى أهم الغايات الإنسانية في مقاصد التشريع السماوي.
المصادر
[1]) صحيح ابن حبان, حديث رقم( 474).
[2]) صحيح أبي داود, حديث رقم ( 4682).
[3]) ينظر: العقد الفريد, لابن عبد ربه, جـ1/25
[4]) صحيح البخاري, حديث رقم (13)
[5]) قصيدة عنوان الحكم, لأبي الفتح البستي, تحقيق/ عبد الفتاح أبو غدة, الناشر: مكتب المطبوعات- حلب, 1404هـ-1984م, 1/36.
[6]) السابق والصفحة.
[7]) صحيح مسلم, حديث رقم ( 2813)
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا