سنة 1979، التف ملايين المصريين حول الشاشة الصغيرة لمشاهدة مسلسل يومي عن حياة رجل كفيف من قرية صغيرة في صعيد مصر، رجل حارب الفقر والجهل والمرض ليصبح رمزًا للتنوير في فترة ما بعد الاستعمار. إنه “طه حسين علي بن سلامة”، عميد الأدب العربي الذي وُلد سنة 1889 لأسرة فقيرة تقطن واحدة من أقل المناطق حظًا في مصر، “قرية الكيلو” في محافظة المنيا. ورغم فقدانه لبصره في الرابعة من عُمره إثر إصابته بالرمد، إلا أن ذلك لم يُثن والده عن إلحاقه بكُتاب القرية، ثم بالأزهر، على أمل أن يكسب قوت يومه من خلال تلاوة القرآن في المناسبات الاجتماعية أو أن يكون مدرسًا في أفضل الأحوال، لكنه أصبح أول من حصل على درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة سنة 1914. وبعد صراعٍ شرس مع أساتذته المحافظين، حصل على منحة للدراسة في فرنسا، إذ أعد أطروحته الثانية لدرجة الدكتوراة في جامعة السوربون وحصل عليها سنة 1919.
عادة ما تضع الأمهات المصريات قصة طه حسين أمام أطفالهن لتذكيرهم بأن الإعاقة والمصاعب الاقتصادية، وحتى الظلم الاجتماعي والاقتصادي، ليست أعذارًا مقبولة للفشل. كذلك يُحافظ التعليم العام في مصر على الإرث الضخم لـ”طه حسين”، إذ يتم تدريس سيرته الذاتية أو قصصه القصيرة أو مقالاته أو أقواله المأثورة للطلاب في جميع مراحل ما قبل التعليم الجامعي، ويدرس الطلاب المصريون خلال السنة الأخيرة في التعليم الثانوي نسخة مبسطة من السيرة الذاتية له؛ قصة “الأيام”، والتي استند إليها المسلسل التلفزيوني. وكلما تم إنشاء مشروع أو منشأة جديدة في مصر لدعم مجتمع المكفوفين، يأتي اسمه أولًا، من مكتبة طه حسين للمكفوفين وضعاف البصر –وهي جزء من مكتبة الإسكندرية– إلى المدارس الخاصة الصغيرة في دلتا النيل.
لم يبتعد طه حسين عن الطلاب أو التعليم حتى وفاته سنة 1973، وعندما أصبح وزيرًا للمعارف –التربية والتعليم حاليًا– سنة 1950، أصدر قرارًا وزاريًا سنة 1951 بإلغاء جميع الرسوم في جميع المدارس الثانوية العامة والمهنية. وفي وقت سابق من سنة 1944 عمل مستشارًا لوزير التربية والتعليم، الذي نفَّذ توصية حسين بإلغاء رسوم التعليم الابتدائي. واليوم، ثمانية عشر مليون طالب مصري مسجلين في المدارس الحكومية المجانية بفضل طه حسين، الذي كان يعتقد أن تكلفة التعليم كانت أكبر عقبة تمنع الأسر المصرية من إرسال الفتيات والفتيان الصغار إلى المدارس، فلا عجب أن نرى مقولته المشهورة “التعليم حق كالماء والهواء” مكتوبة بشكل واضح ومرفوعة على جدران المدارس والجامعات، وكذلك على الأغلفة الخلفية للكتب المدرسية.
لم تكن إعاقة طه حسين حائلًا دون ولوجه في كثرة من المعارك الأدبية والفكرية في الوقت الذي كانت فيه مصر تشهد تغيرات كبيرة. وبينما كانت الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر تموج بالجدل بين دعاة النزعة المحافظة والحداثيين، كان طه حسين يقاتل بشراسة من أجل وعي مفتقد. لم يكن يفر من معركة أيًا كانت شدتها، ولم يحاول استخدام إعاقته مبررًا للهروب من هجمات خصومه، وعندما حاولت أشهر منتجة سينمائية “عزيزة أمير” (1901 – 1952) الحصول على الحقوق الفكرية لرواياته من أجل إنتاجها أفلامًا، أصر طه حسين على إضافة شرط في العقد يمكنه من التدخل في رؤية المخرج للسيناريو والحوار متى شاء، لقد شعر أن رواياته قد تتحول إلى قصص لم يقصدها. وقد قبلت عزيزة أمير الشرط لأنها كانت تعلم أن طه حسين لديه ما يكفي من الخيال ليرى بقلبه وعقله!
“إنما أحادثك لترى، فإذا رأيت، فلا حديث“، جملة “محمد بن عبد الجبار النفري“ التي عاشت لقرون في فم كل من يريد أن تجري على لسانه الفلسفة، وإظهار الوعي بالفرق الكبير بين الكلام والمشاهدة، لكن طه حسين أمسك بهذه الحكمة وأوسعها ضربًا حتى فاضت روحها عندما انتقل خياله الذي لا يرى إلى كل من يرى، فأصبحت الجملة “إنما أحادثك لترى، فإذا رأيت، فالحديث مستمر“!
لم ينقذه العمى من اتهامه بالكفر والهرطقة، ولم يمنعه من الوقوف أمام فوضى منح شهادات الدكتوراة الفخرية لمن لا يستحقونها من السياسيين، مما أدى في النهاية إلى إنهاء عمله عميدًا لكلية الآداب في جامعة القاهرة في سنة 1932. شكَّك بكتابه “في الشعر الجاهلي” –وهو عمله الأكثر إثارة للجدل– في منهجية الشعر العربي وبنيته قبل الإسلام، حتى أنه اتهم اللغويين والمؤرخين العرب والإسلاميين بتزوير التاريخ، أو على الأقل قبول تاريخ مزيف للقبائل العربية قبل الإسلام. وقف أمام المحكمة مدافعًا عن نفسه، وبعد شهور من التحقيقات برأته المحكمة لعدم ثبوت أن رأيه قُصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن، فعدَّل اسم كتابه إلى “في الأدب الجاهلي” وحذف منه المقاطع التي أسيء فهمها وأخذت عليه.
كان طه حسين طوال حياته محاضرًا في الجامعات المصرية. ومع ذلك، فإن شغله منصب عميد كلية الآداب، أو مدير جامعة الإسكندرية، أو وزير التربية والتعليم، كان مجرد قرار سياسي، ولم يكن أحدٌ يُبالي بكونه أعمى، المرة الوحيدة التي تم استدعاء إعاقته فيها كانت سنة 1950، عندما تجمعت مجموعة من طلاب جامعة القاهرة للاحتجاج على سياسته التعليمية، وهتفوا قائلين: “يسقط الوزير الأعمى”، فأجابهم قائلًا إنه يشكر الله الذي أعماه حتى لا يرى تلك الوجوه القبيحة. كانت تلك واحدة من المناسبات النادرة التي أطلق فيها على طه حسين لقب “أعمى” في نقاش سياسي أو فكري، ومع ذلك، كان الوصف أكثر إيلامًا من أي شيء آخر، لأنه خرج من طلابٍ ضحى بحياته لتعليمهم! وعلى الرغم من التغيير الهائل في المشهد السياسي والاجتماعي المصري بعد ثورة 1952، إلا أن مكانة طه حسين واحترامه في الدوائر الحاكمة لم يتغير. حقًا أنه لم يعد وزيرًا، إلا أن النظام الجديد استخدم صوت طه حسين وأمثاله من الأدباء والمفكرين لدعم الشعارات الجديدة لمصر (الاشتراكية والقومية)، إذ يستطيع أحفاد الفلاحين المصريين قيادة مصر. ومع ذلك شهدت علاقة طه حسين بالحُكام الجُدد صعودًا وهبوطًا وفقًا لمواقفه؛ تم فصله مرة أخرى من منصبه رئيس تحرير صحيفة الجمهورية، الناطقة بلسان النظام الجديد، بسبب تعليقاته الانتقادية على كتابات الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1964، وإن كان قد تم تتويجه لاحقًا بـقلادة النيل –وهي أعلى وسام مدني مصري– سنة 1965، وهو تصرف بدا وكأنه اعتذار له، لكنه كان خطوة لا يمكن للنظام أن يتجاهلها بينما كان يُسوق نفسه كنظامٍ تقدمي يحترم العقول العظيمة للأمة!
ذات يومٍ كتب طه حسين إلى زوجته “سوزان بريسو” يقول: “من غيرك أشعر أنى أعمى حقًا. أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإني أمتزج بكل الاشياء التي تحيط بي!”، وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول: “ذراعي لن تمسك بذراعك أبدًا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يُقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة…”.
من أقوال عميد الأدب العربي
“فلنبتهل إلى الله في أن يبرئنا من علة الكلام الكثير، فلعلنا إن برئنا من هذه العلة أن نجد العزاء عن آلامنا وكوارثنا، في العمل الذي يزيل الآلام، ويمحو الكوارث، ويجلي الغمرات”، (بين بين).
“مصر خليقة أن يُحسب لها حساب حين ترضى، وأن يُحسب لها حساب حين تغضب، وأن يُحسب لها حساب حين تريد”، (أحاديث جدتي).
“الشاعر والفيلسوف وصاحب الفن طفل مهما يكبر!”.
“أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شرًا من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه. إن العبء لأثقل من أن تحمليه وحدك، وإن العبء لأثقل من أن أحمله وحدي، فلنتحمل شقاءنا معًا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”، (دعاء الكروان).
“إنني لأخشى إن انجابت عنا هذه الظلمة وغمرنا الضوء أن يكره كل واحد منا النظر في وجه صاحبه”، (دعاء الكروان).
“سل السياسة عن هذا، فهي التي تحسن التفريق بين الأصدقاء، والتقريب بين الأعداء، وهي التي تحسن أن تُنسي الناس أنهم كانوا رفاقًا في الصبا وزملاء في الشباب وأخلاء في الكهولة، وسل السياسة فهي التي تحسن أن تقيم المنافع العاجلة مقام المودة الباقية”، (جنة الحيوان).
“إن المصريين بين اثنين لا ثالث لهما: فإما أن يمضوا في حياتهم كما ألفوها، لا يحفلون إلا بأنفسهم ولذاتهم ومنافعهم، وإذن فليثقوا بأنها الكارثة الساحقة الماحقة التي لا تبقي ولا تذر، وإما أن يستأنفوا حياة جديدة كتلك التي عرفوها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قوامها التضامن والتعاون وإلغاء المسافات والآماد بين الأقوياء والضعفاء، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الأصحاء والمرضى، وإذن فهو التآزر على الخطب حتى يزول، وعلى الكارثة حتى تنمحي، وعلى الغمرات حتى ينجلين، إلى أي الطريقين يريد المترفون من المصريين أن يذهبوا، إلى طريق الموت أم إلى طريق الحياة؟”، (المعذبون في الأرض).
“مهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئًا من كرامة تحملهم على أن يجدوا حين يأكلون مما كسبت أيديهم لذة لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالوا فيه”، (المعذبون في الأرض).
“أعجب لدولة يخدمها موظفون تحيا أجسادهم، وتموت نفوسهم”، (المعذبون في الأرض).
“ما أرى ذاكرة الشعوب إلا كهذه اللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غُرفات الدرس وحجراته يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلة للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئًا ولا تمتنع على شيء”، (جنة الشوك).
“ما دام في الأرض سادة يملكون مئات الألوف، وخدم لا يملكون شيئًا وفرص للهو ينفق فيها المال، فكل العصور واحدة وإن طال الزمن”، (جنة الشوك).
رحم الله طه حسين.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا