فن وأدب - مقالاتمقالات

حكم “محمد علي” في رواية أدبية

لا تعد الكتابة الروائية عن شخصية تاريخية بارزة، عرف الناس عنها إلى حد التشبع، مسألة يسيرة بأي حال من الأحوال.

فإضافة إلى المصادر المتنوعة والروايات المتباينة عنها، هناك الحضور الطاغي لها في الأذهان والنفوس، والذي عالجته كتابات تاريخية وسياسية وصحفية وجوانب من المعارف العامة، لا سيما مع الانفجار المعلوماتي الذي نعيشه الآن، ويختلط فيه السمين بالغث، والصادق بالكاذب، والحقيقي بالأسطوري.

هذه الصعاب قابلت كل من كتب رواية تاريخية، بطلها كان شخصًا بارزًا، وحاضرًا في الآن على قدر حضوره فيما مضى.

الكتابة عن شخصية تاريخية مشهورة

لكن هذا لم يمنع الأدباء من الانجذاب نحو هالات الضوء المبهر الذي يحيط بتلك الشخصيات، فكتب جابرييل جارسيا ماركيز عن سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينة رواية “الجنرال في متاهة”.

أيضًا كتب أبو المعاطي أبو النجا عن عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية رواية “العودة إلى المنفى”، وكتب أحمد علي باكثير عن السلطان قطز رواية “وا إسلاماه”، كما كتب علي الجارم عن زبيدة التي تزوجت الجنرال الفرنسي مينو رواية “غادة رشيد”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استمد شكسبير بعض مسرحياته من شخصيات تاريخية حقيقية، وكتب هاورد فاست عن سبارتاكوس محرر العبيد، وكتب مصطفى سليمان روايته “بارباروسا” عن اليوناني خير الدين بارباروسا الذي تولى حكم الجزائر، لحساب السلطان العثماني سليمان القانوني، وكتب المغربي بن سالم حميش رواية “العلامة” عن ابن خلدون.

لو أن الأمر يقف عند حد كتابة السير مثلما فعل العقاد في العبقريات، وطه حسين ومحمد حسين هيكل وخالد محمد خالد فيما خطوه من تراجم لشخصيات تاريخية إسلامية، لكان هذا أيسر بالقطع.

رواية جنة خانة لزكريا عبيد

لكنه يصعب مع “رواية” يتوقع القارئ أن يجد فيها ما لا يوجد في كتب التاريخ والتراجم، وألا يشعر وهو يطالعها بطغيان التاريخي على الجمالي، وثقل الواقع على الخيال والتخييل.

كل هذه الملابسات أحاطت بالكاتب الأستاذ زكريا عبيد وهو يكتب روايته “جنة خانة” عن سيرة محمد علي باشا، الغائب الحاضر في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.

كان عليه ابتداء أن يعود إلى مراجع ومصادر تاريخية عدة، ليس للوقوف على السياق الذي تدور فيه الأحداث فحسب، بل أيضًا لاستدعاء المسكوت عنه، أو المهمل، أو المخفي، في سيرة محمد علي.

اقرأ أيضاً: المعطف.. قصة وطن!!

نشأة محمد علي والمواقف التي مر بها

جنة خانةجرى الانشغال به منذ أن قرر علماء الأزهر أن يخلعوا الوالي التركي خورشيد باشا ويضعونه مكانه، إلى لحظة وفاته، بعد أن انحسرت إمبراطوريته الصغيرة إثر تآمر الأوروبيين والعثمانيين عليه، أما طفولته وصباه، وحياته الخاصة، فلم تكن محل انشغال كبير، وكأنه قد ولد لحظة جلوسه على عرش مصر.

هنا يتجاوز الكاتب حدود انشغال المؤرخين والسياسيين لينبش في حياة محمد علي، ويعيد خلقه روائيًا، هذه المرة، فيحل السياق الذي أحاط به، والظروف التي نشأ فيها، والشخصيات التي تركت بصمات عليه، والمواقف التي مر بها، وساهمت في صناعة شخصيته على النحو الذي عرفناه.

ونعرف النبوءة التي أطلقها عنه صاحب أبيه، والأحلام التي كانت تراوده في مراهقته، والأشواق التي كانت تستعر في نفسه إلى أن يكون ذات يوم رجلًا لا يمر على الدنيا مرورًا باهتًا خافتًا سريعًا، إنما يترك وراءه علامة وسيعة وعميقة، لا يمحوها الزمن.

وصف الأماكن في رواية جنة خانة

في الرواية يتوج المكان بطلًا إلى جانب الشخصية، فنجد حرصًا شديدًا على وصف الأماكن التي يحل بها بطل الرواية منذ أول لحظة إلى النهاية، إذ تقول أول عبارة فيها “كانت الشمس تميل للمغيب مرسلة آخر أشعتها التي تلونت بالاحمرار على طول الساحل الهادئ، وبدت السفن ومراكب الصيد الصغيرة الراسية في الميناء كلوحة سلويت رائعة غابت عنها التفاصيل، وبدأت تسكن شيئًا فشيئًا الحركة الناشطة، بينما كان المشاعلية يستعدون لإضاءة أرصفة الميناء”.

بينما تقول آخر عبارة: “وقف محمد علي أخيرًا عند سور القلعة المطل على ميدان الرميلة.. وفي صدارة المشهد الذي كان يبدو كلوحة رسمها فنان مبدع ارتفعت مآذن كثيرة عالية.

كان يستطيع أن يميز كثيرًا منها: السلطان حسن، وطولون، والأزهر، وحتى مئذنة المشهد الحسيني المميزة الرفيعة، ومآذن لم يعد يستطيع أن يحصي عددها وقد تناثرت البيوت حتى نهر النيل، وتعبر عيناه إلى الأبعد فتصلان إلى أهرامات الجيزة”.

اقرأ أيضاً: رواية “الأفندي” لمحمد ناجي، فرد يسقط وسط جماعة تعاني

فصول الرواية

بين مشهدي البداية والنهاية تذهب الرواية عميقًا في تعظيم حضور المكان، من خلال “جنة خانة” وهو بيت أبي محمد علي، الذي قضى فيه طفولته، ثم تتوالى الأمكنة الموزعة على فصول الرواية، فبينما اتخذ الفصلان الأول والثاني عنوانا “الفارس” و”أمينة هانم”، جاءت الفصول التالية بأسماء أمكنة على النحو التالي: “في نصرتلي” و”في الأرض الموعودة” و”الطريق إلى القاهرة” و”تحت أسوار القلعة” و”على عرش مصر”.

فيما فتح الفصل السابع فيها بابًا وسيعًا أمام شخصيات تاريخية أخرى احتفت بها الرواية، حين أخذت عنوانًا هو “شعب يبحث عن حاكمه”، مثل “خسرو باشا ويوسف كتخدا، والمحروقي، وطاهر باشا، ومشايخ الأزهر: عمر مكرم والسادات والفيومي والمهدي والشرقاوي، ومراد بك وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسي، والمؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي” صاحب كتاب “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” الذي يعد المرجع العمدة لفترة حكم محمد علي وما سبقها.

منهج رواية جنة خانة

جنة خانة

تنتهج الرواية بناء خطيًا، يبدأ بطفولة محمد علي وحتى تمكنه من حكم مصر، وبين هاتين المرحلتين تتوالى المحطات الحياتية له، والسياسية للدولة العثمانية ومصر، وفق ما ورد في الحوليات التاريخية، الأمر الذي سهل على الكاتب هندسة معمار روايته تلك.

إذ جعل لها منذ اللحظة الأولى هدفًا أو نقطة جذب مركزية، وضعها عنوانًا ثانيًا على الغلاف، ألا وهي “قصة تولي محمد علي باشا عرش مصر”، وبالتالي فإن كل الأحداث والوقائع والحوارات والصور الظاهرة، وكل مضمر في هذا النص، وكذلك ما كان يتشكل في ذهن الكاتب وهو يبحث أو يكتب الرواية، صار خادمًا لهذا الهدف.

أدى هذا إلى حضور التاريخ بقوة، وتحكم محطاته المعروفة في سير الحدث الروائي، ليتلاقيا في محطات عديدة فارقة، منها لحظة مجيء محمد إلى مصر، واحتلال نابليون بونابرت لها ثم رحيله عنها، وقيام ثورة ضد خورشيد باشا، وتطلع الشعب إلى محمد علي ليكون واليًا على البلاد.

رواية جنة خانة تتناول حياة وحكم محمد علي

حاول الكاتب أن يفلت من قبضة التاريخ المحفورة بقوة في الذاكرة وبطون الكتب، لأنه كان يدرك طيلة الوقت أنه يكتب عملًا فنيًا، فتعمق في بعض الأحيان في وصف الحالة النفسية لبطله، وللشخصيات التي أثرت فيه أو صاحبته في حياته.

زاد على هذا بسبك لغة بليغة، وصور فنية لافتة، وجعل الطبيعة تتشاكل وتتفاعل دومًا مع الوقائع التي يصنعها البشر، وكذلك الأحوال الاجتماعية لعموم الناس.

لكن لم ينس، مثل غيره من المثقفين، فكرة استدعاء محمد علي رمزيًا للحظة الراهنة، في سياق ما جال بخواطر المصريين بعد ثورة يناير في البحث عن مخلص أو بَنَّاء كبير أو سياسي محنك يحول الثورة إلى رافعة للدولة.

من ثم ظل الماضي موجودًا في الحاضر، وأصبحت كثير من الأعناق مشدودة إلى الوراء، لا سيما مع غموض المستقبل أو فقدان اليقين في أن ما سيأتي سيكون أفضل مما مضى.

مقالات ذات صلة:

الخطة اللي رسمها ونفذها محمد علي

الخديوي إسماعيل – الرجل الذي استطاع التسويق لنفسه

بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري