في العقد الأخير من حياة أديبنا الكبير، كان لا أحد يسأل عن مكانه: أين يجلس؟ ومن يصحبه إلى جلساته؟ ومن أكثر من حوله إخلاصًا له؟، إلا ويأتي ذكر الدكتور زكي سالم، وهو رجل طيب ودود، مهذب إلى حد بعيد وعميق، وهو أيضًا ممن طالتهم حرفة الأدب، بل هي التي قادته إلى محفوظ في البداية، وأبقته إلى جانبه حتى رحل عن دنيانا في 30 أغسطس 2006.
وقعت عيني –لأول مرة– على اسم الدكتور زكي سالم في سياق خبر عن نجيب محفوظ، وحسبته وقتها طبيبًا مرافقًا للأديب الكبير، الذي كانت صحته آخذة في الاعتلال، إذ ضعف السمع والبصر ووهن العظم واحدودب الظهر وصار السير وئيدًا، ووصل مرض السكري إلى ذروته، وبلغ السأم من تكاليف الحياة مبلغه.
لكنني فوجئت بعد مدة لم أعد أتذكر مداها، بقصة منشورة لزكي سالم، فقلت: لا بأس، فكثير من أطبائنا أبدعوا شعرًا ونثرًا وسردًا.
لا أحد بوسعه أن يتخطى مواهب كبرى مثل إبراهيم ناجي في الشعر، ويوسف إدريس ومحمد المخزنجي في القصة، ومحمد المنسي قنديل في الرواية والقصة، ومن جيلنا محمد إبراهيم طه وعبد المنعم الباز وحاتم رضوان وغيرهم.
علاقة زكي سالم بنجيب محفوظ
كانت مفاجأة لي، لكنها لم تكن كذلك لمن تابعوا قبلي ما نشره سالم من قصص منجمة في صحف ومجلات.
لم يكن الإتيان على ذكر زكي سالم في مقالات وتصريحات من تحلقوا حول محفوظ مثل الأساتذة جمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد سلماوي والدكتور حسين حمودة والدكتور يحيى الرخاوي وغيرهم، يكشف شيئًا عنه.
حتى قال لي المهندس محمد الشربيني، وكان ممن التحقوا بـ”شلة الحرافيش”، إنه ليس طبيبًا، لكنه محب لمحفوظ، وقريب منه، وأن الأستاذ يكن له حبًا جمًا، ويشعر بامتنان غامر لوجوده إلى جانبه.
رأيت في مرحلة لاحقة صورة للحب الإنساني في نادي المنيل ذات ليلة، حين كان محفوظ يمشي على مهل بين يدي سالم، وهو يسنده من كتفيه، ويرقب الطريق أمامه، حتى لا تنزلق قدماه في وهاد أو حفر لا يمتد إليها بصره الكليل.
زكي سالم يحلل أحلام نجيب محفوظ
وقت أن كنت أقدم أحد البرامج في فضائية، لم تلبث أن ضاقت بي كما توقعت، استضفت زكي سالم في حلقة عن نجيب محفوظ، فجاء لي ومعه بعض مؤلفاته التي تنوعت بين المجموعات القصصية والروايات والأبحاث.
هي في عمومها تتكون من مجموعات: “عين العقل” و”عقد الفل” و”تقاسيم على أشجان قديمة” و”العدالة العمياء”، وثلاث روايات قصيرة في كتاب واحد عنوانه “طريق المطار”، ثم روايتي “حكيم” و”مقام سيدي العريف”.
إضافة إلى دراستان عنوانهما: “الإنسان في فلسفة الغزالي وتصوفه” و”الاتجاه النقدي عن ابن عربي”، وحكايات وتأملات عنوانها “تجارب إنسانية”، وكتاب “تأملات في قصة حي بن يقظان لابن طفيل”، وكتاب سيرة دراسة بعنوان “نجيب محفوظ .. صداقة ممتدة”.
علاوة على هذا، كتب سالم مقالات في صحف عدة مثل “الأهرام” و”أخبار اليوم” و”الحياة” و”أخبار الأدب” و”الدستور” و”التحرير”، ودوريات مثل “الهلال، و”إبداع” و”وجهات نظر” وغيرها.
بالقطع فإن القصص هي التي قادت سالم إلى تلك “الصداقة الممتدة”، بين تلميذ وأستاذه، فبعد أن كتب أولاها أراد أن يشهد صاحب السرد العرم، والبنَّاء الكبير الدؤوب لأعمدة الرواية العربية، على باكورة إنتاجه.
زكي سالم التلميذ الوفي لأستاذه
ذهب ذات يوم من عام 1977 إلى شارع النيل بالعجوزة، وكان أيامها لا يزال طالبًا بالسنة الأولى في كلية التجارة، ووقف أمام البناية التي يقطنها محفوظ، منتظرًا إياه أن يخرج، وما إن رآه حتى جرى إليه، ليريه بعض قصصه، فما كان من الأستاذ إلا أن ربت كتفه مشجعًا، كعادته مع من هم على أول الطريق، ودعاه إلى ندوته بمقهى “قصر النيل”.
تهللت أساريره، وذهب في الموعد المحدد، وجلس خمس سنوات صامتًا، يسمع من محفوظ والذين حوله، ولا يشارك، إلا في مرات نادرة بسؤال أو استفهام، حتى أتته الفرصة ذات يوم، حين خرج وراء محفوظ فوجده يقف على طرف الشارع ليوقف سيارة أجرة تقله إلى بيته، وكان قد اكتفى بعد السبعين أن يأتي إلى الندوة ماشيًا ويعود راكبًا، بعد أن قطع الطريق ذهابًا وإيابًا أيام كان في الوظيفة وما بعدها بسنوات.
اقترب سالم من محفوظ وعرض عليه أن يوصله بسيارته البسيطة، فقبل الرجل على الفور، شاكرًا له، وهي مهمة تكررت في السنوات اللاحقة، وزادت في علاقة سالم بمحفوظ، الذي وجد إلى جانبه تلميذًا مخلصًا وفيًا، يرى في أستاذه أنه عظيم في تاريخ الأدب الإنساني مثل هوميروس والمتنبي ودانتي وديستوفسكي وشكسبير، وغيرهم من كبار المبدعين.
اقرأ أيضاً:
زكي سالم دكتور في الفلسفة الإسلامية
ربما جعلت هذه العلاقة سالم يشعر باغتراب شديد حين يضع دراسته أمام اهتمامه، فالتحق بعد حصوله على بكالوريوس التجارة بكلية الآداب جامعة عين شمس، ونال منها ليسانس في الفلسفة، ثم ماجستير في الفلسفة الإسلامية من معهد الدراسات الإسلامية عام 1986، ودكتواره في الفلسفة الإسلامية والتصوف من جامعة المنوفية عام 2004.
لا يحتاج أي منا إلى كثير نباهة كي يكتشف أن سالم تأثر في رحلته الدراسية الثانية بما سبق أن قطعه محفوظ في حياته الجامعية، إذ درس الفلسفة في جامعة القاهرة، وكان يعتزم تسجيل أطروحة للماجستير في الفلسفة الإسلامية مع أستاذه الدكتور مصطفى عبد الرازق، لكن رفع اسمه مع طلاب البعثة التي كان من المزمع أن يسافروا إلى فرنسا لاستكمال دراساتهم حال دون هذا.
سالم يتأثر بموقف محفوظ من ثورة 1919
لحسن حظ الأدب العربي، فقنع محفوظ بكتابة القصة والرواية، ووظيفة بوزارة الأوقاف، ومعهما تجربتين في كتابة السيناريو ومقالات قصيرة لصحيفة “الأهرام”، لكن كليهما لم يأخذاه من عشقه الأول وهو الرواية.
ربما تأثر سالم بموقف محفوظ الإيجابي من ثورة 1919، التي مات عام 2006 ولا يعترف بثورة حقيقية غيرها، فآمن بها مثله.
على غرارها آمن بثورة 25 يناير، التي أهدى شهداءها مجموعته “العدالة العمياء” إلى جانب ثورة 19، متخليًا عن الحذر المحفوظي المعروف، في نقده للأوضاع السائدة الآن، في معرض تعليقات يكتبها تباعًا على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، وحين تحدثه عن سر غضبه يقول لك: “ما يجري فوق طاقتي على التحمل”.
رواية مقام سيدي العريف للكاتب زكي سالم
قبل ثلاثة أشهر تقريبًا أهداني سالم روايته الأخيرة “مقام سيدي العريف”، وقد قرأتها دفعة واحدة ليس لقصرها فحسب، بل أيضًا لجاذبيتها، وعالمها الغرائبي، ولغتها التي تحمل نكهة محفوظية أحيانًا، وتناصها الواضح مع القرآن الكريم في سورة “يوسف”، التي يصنع الكاتب موازاة لا تخلو من مضاهاة بين ما جرى لهذا النبي فائق الحسن وبين ما وقع لبطل روايته.
الذي يجد نفسه في معاناة شديدة من اليتم والفقر والاغتراب، مسربلًا بالرؤى والأساطير العجيبة، المربوطة بالمبالغة في كرامات الأولياء، واستغلال الدين من قبل البعض في تضليل الناس، والارتزاق، وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وهو ما عالجه سالم بطريقة مختلفة عن كثير من التناول السائد، حين اكتشف بطل الرواية أن السيدة الغريبة التي هبطت على قريتهم بغتة، والتي يحسبونها شيخة ويجهزون مقامًا لدفنها، ويتركونها تختلي بنساء القرية في غرفة مغلقة مظلمة، ليست سوى رجلًا يختبئ في لباس النساء.
مرافق نجيب محفوظ الذي طالته أيضاً حرفة الأدب
هذه النهاية تباعد بين الرواية وتتبع مسار “يوسف الصديق” وتقربها قليلًا من “الشيخ شيخة”، وهي واحدة من أشهر قصص “يوسف إدريس”، لكنها تحمل في شكلها وفي حمولاتها العامة –حيث العالم المفعم في الزيف والخداع– بعض سمات عوالم نجيب محفوظ وقسماتها، إنما بطريقة زكي سالم وصياغته.
ليس بغريب أن يتأثر سالم على هذا النحو بمحفوظ، وهو الذي سبق أن قال: “بعد رحلتي العميقة مع نجيب محفوظ، وجدت أن الأهم لا الملاحظات الفنية أو النصائح الأدبية، التى قدمها إليّ، إنما الدوران في فلك عالم محفوظ الأكثر جمالًا من كل عوالم البشر الآخرين”.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا