“نجيب محفوظ ناقدًا”، عبارة ما إن تراها تمثل عنوانًا لكتاب تبلغ صفحاته أربعمائة وستين من القطع فوق المتوسط، حتى تندهش، وتنشغل بالتساؤلات التي تشتعل في رأسك.
نجيب محفوظ ناقدًا
تسارع إلى استعراض محتوياته أولًا، لتستيقن من أن العنوان هو لافتة عريضة لمضمون حقيقي ثري يكافئ العنوان الجديد من نوعه في كل مسار محفوظ ومسيرته.
لا سيما في مواجهة العبارة التي قالها يحيى حقي، في حوار أجراه معه فؤاد دوارة عام 1964: “عندنا توفيق الحكيم ونجيب محفوظ لم يكتبا سطرًا واحدًا في نقد الإنتاج الأدبي”.
تأليف دكتور تامر فايز
لكنك ستأخذ الموضوع على محمل الجد، لخمسة أسباب: أولها، أن الكاتب الدكتور تامر فايز، باحث وناقد متخصص، فهو أستاذ مساعد للأدب الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة، سبق أن أصدر ثلاثة كتب، وله العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في دوريات مختلفة.
كما أن الكتاب قد صدر بتقديم من الأستاذ الدكتور شمس الدين الحجاجي، وهو واحد من أكبر أساتذة الأدب الشعبي في مصر، وأتصور أنه قد وجد في موضوع البحث ما يستحق النظر والاعتبار.
اقتراب بحثي وليس أمراً مقطوعاً
ثاني الأسباب يؤدي إلى ترسيخ هذه الجدية في نفسك حين تستعرض ملاحق الكتاب، التي تضم عددًا كبيرًا من الحوارات التي أجريت مع محفوظ على فترات متتابعة.
التي تمثل عينة كافية ومستوفية كي يرى الكاتب من خلالها أن أديبنا الكبير مارس النقد شفهيًا –على الأقل– وكان جهده ملموسًا في هذه الناحية، إلى درجة أن الكاتب يوزعه على ألوان متعددة من النقد: الثقافي والتطبيقي الذاتي والغيري، إضافة إلى التأريخ للأدب.
السبب الثالث هو أن الكاتب وضع عنوانًا فرعيًا للكتاب دالًا في تواضعه وإدراك ما في الموضوع من جِدة، يقول: “مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية”.
بذا أراد أن يبين لنا أن دراسته هي اقتراب بحثي، وليس أمرًا مقطوعًا به، وتعتمد على تأويل الكاتب، لأن محفوظ لم يمارس النقد بطريقة مباشرة بالطبع، ولم يصف نفسه في أي يوم، أو يصفه غيره، بأنه ناقد محترف أو حتى انطباعي.
الخلفية الدراسية والمعرفية لنجيب محفوظ
أما الرابع فيتعلق بالخلفية الدراسية والمعرفية لمحفوظ نفسه، والتي تؤهله لتذوق الأدب، بمختلف أنواعه، الذي ينتجه أو يبدعه غيره.
محفوظ درس الفلسفة، وكان يتطلع إلى إعداد أطروحة ماجستير في هذا الحقل المعرفي، الذي يمد من قطع فيه شوطًا طويلًا وأخذه بجدية، بإطار محكم يجعل بوسعه أن يسبر أغوار النصوص، ويكشف عما تحت طبقتها الظاهرة المتدثرة ببلاغة قوية، أو المقتصدة فيها، من معان وقيم ورؤى وتصورات وأشواق.
كان الأمر سيصبح ذا أثر قوي لو أن محفوظ مضى فيه، إذ إن أطروحته لو قدر لها أن ترى النور كانت في “فلسفة الجمال”، وهو اختيار واع لرجل زاوج –حتى في قراءاته– بين الأدب والفلسفة زمنًا ليس بالقليل، إلى أن تغلب الأول على الثانية.
أفكار وآراء محفوظ النقدية
السبب الخامس يحيلنا إلى المرحلة الأولى في حياة محفوظ، فهو لم يسع لمواصلة دراساته العليا في الفلسفة فحسب، بل أيضا كتب عديدًا من المقالات النظرية والفلسفية، وبعضها كان يرد فيه على كثير من الأفكار والآراء النقدية التي كانت سائدة في مصر وقت أن كان محفوظ في ريعان شبابه.
بلغ في هذا مستوىً جريئًا ومتقدمًا، مثل ذلك السجال مع العقاد حين فضَّل الشعر على الرواية، وقال إن الأخيرة مثل الخرنوب قنطار خشب ودرهم حلاوة، فرد محفوظ “الرواية هي شعر الدنيا الحديثة”.
كما أن القصص الأولى لمحفوظ كانت شيئًا بين السرد والمقال، حتى إنه أوكل إلى السحار اختيار ثلاثين قصة فقط من بين ثلاثمائة كان قد نشرها، لتظهر في مجموعته الأولى “همس الجنون”.
أعتقد أن بقية القصص لو تم جمعها، فقد نجد في الشق الأقرب إلى المقال فيها رؤى وتصورات، تفيد أي بحث عن رؤى محفوظ وتصوراته المباشرة، التي يمكن أن تشكل إطارًا لعملية النقد وطرائقه.
تأثير الفلسفة في رؤية محفوظ
وفق المسرد الذي أورده تامر فايز، والمُستقى من حوارات محفوظ فإن أديبنا الكبير يصف الفلسفة بأنها “كانت أم المعارف قديمًا، ثم أصبحت الآن نظرية معرفية”.
بل إن مفردات المسرد ومصطلحاته، هي في حد ذاتها تبين مدى تأثير الفلسفة في رؤية محفوظ التي يعبر عنها في أحاديثه وحواراته، مثلما أثرت –من دون شك– في نصه الأدبي، قصصيًا كان أو روائيًا.
ربما لمس د. الحجاجي ما في هذا الكتاب من لمسة تستحق النظر، حين كتب في معرض تقديمه له: “أدرك تامر فايز أن خطاب نجيب محفوظ وسائليه يتحول من كلام عادي إلى رمزي، تحمل رسائله العديد من اللمحات الكاشفة عن شخصيته ومدى ارتباطه بعصره وفنه.
قد تبدى في هذا الكتاب ناقدًا تنظيريًا متمكنًا من مقولاته، وعمق إطلاعه على كتابات النقاد”.
نجيب محفوظ والأهرام
كان من الطبيعي أن يدافع الحجاجي عن تلميذه النابه، الذي لم يخذله، فبذل جهدًا واضحًا في جمع حوارات محفوظ خلال الفترة المتراوحة بين 1957 و2005 وتصنيفها وترتيبها، ثم تحليل مضمونها، متوسلًا بمنهج علمي دقيق.
هي مسألة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، حتى إن كان من بيننا الذين يتخذون موقفًا سلبيًا من الكتاب بمجرد أن تقع عيونهم على عنوانه، اتكاء على ما استقر في الأذهان والضمائر من أن محفوظ كان ساردًا، يهرب بلا تردد من أي كتابة تعطله عن السرد.
حتى إنه –وتحت إلحاح– قبِل أن يكتب زاوية في صحيفة “الأهرام” مكتفيًا بها، رافضًا أن تخصص له صفحة كاملة مثلما كان لتوفيق الحكيم ولويس عوض ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود وإحسان عبد القدوس.
اقرأ أيضاً:
تعريف التفكير النقدي وأهميته، أدوات التفكير الناقد
نجيب محفوظ الأقل كلاما
كما كان محفوظ رجلًا مقتصدًا في الكلام، لا يتحدث إلا إذا وجه إليه سؤال، ولا يتطوع بقول رأيه في ما يكتبه غيره إلا إذا واجه إلحاحًا، وفي هذا تغلُب عليه المجاملة.
لا يبادر إلا في الحديث عمن سبقوه، مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، الذي طالما مدحه، ورأى أن نوبل كانت ستذهب إليه لولا وفاته، كما مدح يحيى حقي الذي كان في يوم من الأيام رئيسه في العمل.
أما من قدحوا فيه مثل يوسف إدريس فإنه لم يقابل نقده اللاذع بنقد مضاد، إنما تسامى فوق الخلاف، وترك للناس أغلب الحُكم.
مأزق التكرار الاجتراري النقدي
لكل هذا لا يمكن التفاعل، للوهلة الأولى، مع الكتاب بسهولة ويسر، لكن لا يمكن إنكار حالة الشغف والفضول التي تتملكنا ونحن نمضي في أولى صفحاته، لا سيما حين يكشف لنا المؤلف عن السبب الجوهري، والهدف الأساسي، لبحثه هذا.
يقول: “يدرك من يعمل في المجال الرحب للنقد الأدبي الحديث تنظيرًا وتطبيقًا أن ثمة تكرارًا اجتراريًا واضحًا، تجلى في كثير من الممارسات النقدية التي يقدمها أولو الاهتمام بهذ المجال المعرفي المتسع.
هو تكرار ينتج إما عن طبيعة الكتابات المتعلقة بالمجال ذاته من ناحية، وإما لتشابه مرجعيات النقاد في أطروحاتهم النقدية من ناحية ثانية.
هكذا نبتت في ذهني فكرة دراسة تسعى للبحث عن مخرج من مأزق التكرار الاجتراري النقدي البادي بجلاء، لا سيما في الكتابات النقدية الحديثة”.
تامر فايز يثبت دور محفوظ في النقد الأدبي
لم يكن تامر فايز يريد من خلال تحليل حوارات نجيب محفوظ أن يثبت أنه ناقد بالمعنى المتعارف عليه بين الأدباء ودارسيه في كل مكان وزمان، إنما ليبين أن الرجل كان مُطلعًا على نظريات الأدب وتطور نصوصه وما يكتبه النقاد عنه وعن غيره.
هنا يقول: “لم يكن هدفي، حين بدأت قراءة حوارات نجيب محفوظ، أن أظهره ناقدًا أو أن أبحث عن آرائه النقدية المتنوعة، وإنما تمكنه النقدي –على تنوعاته وتشكلاته– هو ما فرض عليَّ وضع الفرضية الرئيسة لهذه الدراسة في ذلك الإطار”.
انتهى المؤلف إلى إثبات هذه الفرضية بالفعل، فمحفوظ بدا من خلال ما أدلى به في حواراته، ممتلكًا لأدوات الناقد، مثلما حازها معاصروه من النقاد، وإن كان إخلاصه للسرد، ورغبته في التفرغ له، لا يشغله شيء عنه، جعله يوظف ملكاته النقدية في خدمة نصوصه.
محفوظ يمتلك رؤية نقدية
لا يعني هذا أنه كان يتعمد كتابة رواياته وقصصه وفق نظريات معينة، فالنظريات نفسها تنبت من بين النصوص، ومن رحم الميدان الفسيح الحافل بما يدعو للتبصر والتأمل، إنما كان واعيًا بمدارس الأدب ومذاهبه واتجاهاته وتطوراته في الغرب.
كذلك ما يضيفه الجيل الجديد في بلدنا، وكان هذا الوعي يستقر في الخلفية، وربما كان يبرز أكثر وقت مراجعة محفوظ لمسودات نصوصه، وقد بان أنه كان يفعل هذا غير مرة، وفق التحقيقات التي أجراها محمد شعير، ونشرها في صحيفة “أخبار الأدب”، ونشر أهمها في كتابه “أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة”.
وصف تامر فايز ما كان لدى نجيب محفوظ في هذه الناحية بأنه “رؤية نقدية” و”شبه نظرية نقدية”، وهي مسألة يعتقد أنها لم تأخذ أي حظ من الانتباه فيما سبق.
هذه حقيقة، فالكل لم يأت على ذكرها، حتى من قرأوا مقالات محفوظ وتعليقاته المقتضبة في صحيفة الأهرام، والتي جُمعت في أربعة كتب.
دور النقد في خدمة الإبداع
كذلك من كتبوا دراسات عنه، وحوارات مطولة وذكريات معه مثل رجاء النقاش وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وزكي سالم، أو دراسات تفصيلية مثل التي قام بها مصطفى بيومي، وإن كان الأخير قد أظهر وعيًا بقدرات محفوظ في هذه الناحية.
في المجمل العام فإن كتاب تامر فايز، يفتح الباب أمام سؤال مهم حول الوعي النقدي للمبدعين، شعراء كانوا أو كتاب رواية وقصة، سواء كان هذا الوعي رؤية نقدية أو فهم لدور النقد في خدمة الإبداع.
هي مسألة ليست هينة، أو على الأقل واحدة من تلك القضايا التي يجب أن نهتم بها في دراسة حياة مبدعي الأدب وما أبدعوه، والتي لا يكف النقاد والدارسين عن تجديدها، ومعرفة غرائبها، كما أظهرت كتابات كثيرة في الغرب والشرق.
نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا