قضايا وجودية - مقالاتمقالات

النزعة الإلحادية الجديدة ونصل أوكام .. الجزء الأول

“على الأرجح لا يوجد إله الآن، دع القلق واستمتع بالحياة” (There’s probably no God. Now stop worrying and enjoy your life)، إنه شعار الملحدين الجُدد!

لا أعني بذلك أولئك الرويبضات الذين يُظهرون غير ما يبطنون، ويتخذون من تطورات العلم وقشور الفلسفة أداةً براقة لجذب الشباب وإغوائهم بالإلحاد، ويعمدون إلى الصلاة في معابد الشيطان من أجل النفس التواقة إلى إشباع شهواتها بغير ضابط ولا رابط.

هؤلاء تجدهم وأتباعهم في الغرب إفرازًا طبيعيًا للخواء الروحي وهيمنة رأس المال، وتجدهم ومريديهم في الشرق نبتًا عفنًا للاستبداد السياسي والتفسخ الاجتماعي والمظهرية الحضارية الكاذبة بكافة أشكالها، لا سيما الدينية منها!

مَن هم الفرسان الأربعة؟

إنما أعني بالأحرى نفرًا من الفلاسفة والعلماء الذين يُشكلون منذ سنة 2006 تقريبًا ما اصطلح على تسميتها النزعة الإلحادية الجديدة (New Atheism)، من أمثال البيولوجي الإنجليزي كلينتون ريتشارد داوكينز (Clinton Richard Dawkins) من مواليد سنة 1941، والفيلسوف وعالم الأعصاب الأمريكي صمويل بنيامين سام هاريس (Samuel Benjamin Sam Harris) من مواليد 1967.

أيضًا منهم الصحافي والكاتب والناقد الديني الأمريكي كريستوفر إريك هيتشنز (Christopher Eric Hitchens) 1949 – 2011، وفيلسوف العلم الأمريكي دانيال كليمنت دينيت (Daniel Clement Dennett) من مواليد سنة 1942.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سُمي هؤلاء الأربعة الفرسان الأربعة Four Horsemen (في مقابل فرسان رؤيا يوحنا الأربعة في الكتاب المقدس المسيحي)، بعد لقائهم في الثلاثين من سبتمبر سنة 2007 في مقر إقامة هيتشنز في العاصمة الأمريكية واشنطن.

فما هذه النزعة؟ وما أهم أفكارها؟

النزعة الإلحادية الجديدة

يرجع مصطلح النزعة الإلحادية الجديدة (New Atheism) إلى الكاتب والصحافي الأمريكي جاري وولف (Gary Wolf) من مواليد سنة 1961، الذي صك المصطلح سنة 2006 لوصف المواقف التي تبناها ودافع عنها عددٌ من المُلحدين في القرن الحادي والعشرين.

لا سيما الرأي القائل بأنه لا ينبغي ببساطة التسامح مع المروجين للخرافات والدين واللا عقلانية، بل يجب بدلًا من ذلك مواجهتهم وانتقادهم وتحديهم بالحجج العقلانية، خاصةً عندما يمارسون تأثيرًا لا داعي له، مثلما هو الحال في البرامج الحكومية والتعليمية والسياسية.

لا تحوي أفكار الملحدين الجُدد أية عناصر جديدة فيما يتعلق بالإلحاد عمومًا، بل يمكن القول إن كافة ما ردَّدوه قد ردَّده من قبل، وربما على نحوٍ أفضل، فلاسفة من أمثال برتراند رسل (Bertrand Russell) 1872 – 1970، توماس بين (Thomas Paine) 1737 – 1809، لودفيج فيورباخ (Ludwig Feuerbach) 1804 – 1872، كارل ماركس (Karl Marx) 1818 – 1883، سيجموند فرويد (Sigmund Freud) 1856 – 1939، فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) 1844 – 1900، وغيرهم.

الفكر الإلحادي يطور نفسه

الفكر الإلحاديعلى حد تعبير دامون لينكر (Damon Linker): “النزعة الإلحادية الجديدة ليست جديدة نوعًا، بل تنتمي إلى سلالة فكرية ترجع إلى مئات السنين، وتحديدًا إلى اللحظة التي انقسم فيها الفكر الإلحادي إلى تقليدين، الأول يهتم بالسعي النزيه نحو الحقيقة –وإن ضل–، الثاني ينطلق من ازدراء عميق للإيمان الشخصي للآخرين”.

مع ذلك، فإن ما هو أصيل هو الإلحاح المستحدث في الخطاب الإلحادي، ونوع الإحياء الاجتماعي والعلمي للإلحاد الذي تجلى في كتابات ومحاضرات ومؤتمرات الملحدين الجُدد.

بعبارة أخرى، لا تحمل النزعة الإلحادية الجديدة أفكارًا جديدة، لكنها بمثابة إحياء وتجميع وتعضيد للأفكار القديمة.

الدليل بين الإيمان والإلحاد

الإنسان الحكيم يجعل اعتقاده متسقًا مع الدليل (البينة Evidence)، هكذا كتب الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (David Hume) 1711 – 1776، وهي مقولة يمكن أن نعتبرها صياغة مختصرة للنزعة الدليلية (Evidentialism)، أعني وجهة النظر القائلة إن أي اعتقاد إنما يكون عقلانيًا أو مبررًا إذا، وفقط إذا، كان مدعومًا بالدليل لدى الشخص المُعتقد.

في صيغتها الأكثر عمومية تشمل النزعة الدليلية الاعتقادات ذات الدرجات المختلفة من الثقة، وكذلك المواقف الاعتقادية الأخرى مثل الكفر والشك وتعطيل الحكم.

تؤدي النزعة الدليلية دورًا أساسيًا في هجمات الملحدين الجُدد ضد العقيدة الدينية، إذ ينتقدون الاعتقاد بوجود الله أو أية وقائع سماوية أخرى استنادًا إلى عدم وجود دليل!

اقرأ أيضاً:

الإلحاد في ميزان العقل

العقل والعِلّية 

هل يقبل كبار علماء الإلحاد ذلكم التحدي؟! 

أين الدليل؟

هنا يتردد صدى كلمات عالم الفلك الأمريكي كارل ساجان (Carl Sagan) 1934 – 1996، ومن قبله عالم الرياضيات والفلك الفرنسي بيير سيمون لابلاس (Pierre-Simon Laplace) 1749 – 1827: “الدعاوى الاستثنائية تستلزم دليلاً استثنائيًا.

وإذ إنه لا يوجد شيء من هذا القبيل حين يتعلق الأمر بما هو إلهي، فالنتيجة اللازمة هي أن المعتقد الديني ينبغي أن يكون غير عقلاني، وغير مبرر إبستمولوجيًا، أو يفتقر إلى الشرعية الفكرية، بل وينبغي رفضه”.

كذلك كان كريستوفر هيتشنز مولعًا بالقول إن ما يمكن الجزم به دون دليل، يمكن أيضًا رفضه دون دليل، ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى أن اعتقاد الملحدين الجدد بأنه لا يوجد إله، يستلزم –وفقًا للنزعة الدليلية– دليلًا كيما يكون عقلانيًا.

الملحدون ليسوا عقلانيين

لذا فالسؤال الذي يمكننا طرحه هو التالي: “كيف يوظف المُلحدون الجُدد مبادئ النزعة الدليلية في احتجاجهم بأن المعتقد الديني غير عقلاني، في الوقت الذي لا يرغبون فيه في تطبيق هذه المبادئ ذاتها على النزعة الإلحادية؟

وإذا كان إلحاد المُلحدين الجُدد غير مؤسس على الدليل (وفقًا لمقولة هيتشنز أعلاه)، ألا تستلزم النزعة الدليلية إذن كون النزعة الإلحادية ذاتها غير عقلانية أو غير مبررة إبستمولوجيًا؟”.

الإجابة بالتأكيد نعم، على الأقل إذا تم تفسير النزعة الدليلية بالطريقة القياسية، ومن ثم فالمُلحدين الجُدد في حاجة إلى توفيق أوضاعهم مع النزعة الدليلية، بنوعٍ من التنظير يُضفي الشرعية على إلحادهم بدون دليل.

يبدو أنهم على دراية بذلك، لأنهم يسعون دومًا إلى تقديم العديد من الأسباب لكون الإلحاد لا يستلزم دعمًا بالدليل، لعل السبب الأبرز منها أن الإلحاد ليس اعتقادًا!

الإلحاد والاعتقاد

الفكر الإلحادي

غالبًا ما يذهب الملحدون إلى أن الإلحاد ليس موقفًا إيجابيًا على الإطلاق، بمعنى أنه ليس اعتقادًا أو نظرة كلية، لكنه مجرد كفر بالإيمان، أو رفض قبول ما يعتقد به المؤمن، وبالتالي ليس ثمة اعتقاد يجب أن تتوفر عليه البينة أو يقوم عليه دليل، فاللا موقف لا يستلزم دليلًا!

على الرغم من أن كلمة إلحاد قد تم استخدامها بمعنى قريب من ذلك، إلا أنه في الحقيقة استخدام غير معياري بالمرة، فمن المفهوم أن الإلحاد يشمل اللا أدرية (Agnosticism)، لأن اللا أدريين أيضًا ليسوا مؤمنين، فالملحد هو الشخص الذي لا يؤمن بوجود الله، بينما اللا أدري هو الشخص الذي يعتقد أنه من غير الممكن معرفة وجود الله من عدمه.

اللا أدرية لا تتعلق بالإيمان بوجود الله في المقام الأول، بل بالمبررات العقلية لهذا الوجود، وبعبارة أخرى، العقل البشري وفقًا للا أدرية غير قادر على توفير أسباب منطقية كافية لتبرير الإيمان بوجود الله أو الاعتقاد بأن الله غير موجود.

بهذا المعنى، فإن كلًا من الملحد واللا أدري لا يدعي في النهاية امتلاك المعرفة اللازمة لدعم المعتقد الإيماني، إذ غالبًا ما يكون عدم المعرفة سببًا لعدم الإيمان.

فقه الإلحاد

مع ذلك، ووفقًا للفهم المشترك للإلحاد –القائل إنه لا توجد حقيقة إلهية من أي نوع– فإن الإلحاد واللا أدرية يستبعد كل منهما الآخر، ويُصر بعض الباحثين على أن هذا المعنى غير المعياري للإلحاد هو المعنى الوحيد الممكن،

لأن كلمة ملحد تعني غير مؤمن، ولكن إذا كانت هذه حُجة جيدة، فإن المكوك الفضائي يجب أن يكون بمثابة سيارة، لأنه يتحرك من تلقاء نفسه، وكذلك القطط والكلاب!

لكن لا شيء من ذلك مهم حقًا، لأنه حتى المعنى غير المعياري للإلحاد لا يفعل شيئًا لتحييد مطلب النزعة الدليلية: أعني وجود الدليل أو البينة.

كما رأينا، تنطبق النزعة الدليلية على كافة المواقف الممكنة تجاه قضية ما ولتكن “ق”، أعني “الاعتقاد بـ ق”، أو “الاعتقاد بنفي ق”، أو “عدم إصدار الحُكم على ق”، إلخ.

الإلحاد بين حرية الاعتقاد وعبثية الوجود

فيما يتعلق بالقضية “الله موجود” تقول النزعة الدليلية أن أي موقف تجاهها لن يكون عقلانيًا أو مُبررًا إلا إن كان فقط ينطوي على دليل.

حقًا أنه إذا لم يكن لدى المرء أي موقف فيما يتعلق بافتراض وجود الله –ربما لأن الفكرة لا تروق له– فلن يستلزم ذلك دليلًا، لكن الملحدين الجُدد يعتقدون جميعًا أنه “من المحتمل” ألا يوجد إله، أو أية حقيقة إلهية أخرى.

هذا الافتراض ينبغي أن يكون مؤسسًا على دليل مُشبع إن أريد له أن يكون عقلانيًا وفقًا للنزعة الدليلية. وعلى هذا فإن الإصرار على أن الإلحاد ليس اعتقادًا لا يُجدي نفعًا!

يتبع

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية