قضية العولمة كقضية عالمية تواجه شباب العالم .. الجزء الثاني
رابعًا أنواع العولمة
ربما كان من أسباب اختلاف تعريفات العولمة وصعوبتها، تعدد أنواع العولمة نفسها، فمن الطبيعي أن تختلف تعريفات العولمة باختلاف أبعادها وتجلياتها ومؤشراتها على أرض الواقع.
يمكن حصر العناصر الأساسية لظاهرة العولمة الراهنة في مستويات ثلاثة متداخلة ومترابطة؛ الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، فالعولمة إذن تنقسم إلى أقسام متعددة، أهمها ما يلي:
العولمة السياسية
العولمة السياسية، وتعني نشر القيم الغربية في مجال السياسة، بالدعوة إلى الأخذ بالديمقراطية الغربية بوصفها نظامًا للحكم، مع ما يتطلبه ذلك من تعددية سياسية، وأحزاب، وحرية في التعبير، ومجالس تشريعية، ودساتير، ورأي عام، وغير ذلك.
هذا النوع وإن كان قد تغلغل في مجتمعاتنا منذ الاستعمار العسكري الغربي في القرنين الماضيين، إلا أنه تزايد وانتشر بعد إطلاق مصطلح العولمة انتشارًا ملحوظًا.
العولمة الثقافية والاجتماعية
العولمة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وتعني نشر الفكر الغربي في النظر إلى الكون والحياة والإنسان، بوسائل منها: الأدب الغربي الذي أخذ يتسلل إلى مجتمعاتنا باسم الحداثة، وشبكة المعلومات الدولية، والفضائيات التي أصبح انتشارها في العالم ممكنًا، بعد أن غزا الغرب الفضاء وثبّت فيه عددًا كبيرًا من الأقمار الصناعية.
العولمة الاقتصادية
العولمة الاقتصادية، وتعني نشر القيم الغربية في مجال الاقتصاد، مثل: الحرية الاقتصادية، وفتح الأسواق، وترك الأسعار للعرض والطلب، وعدم تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي، وربط اقتصاد الدول النامية بالاقتصاد العالمي.
إذ يصبح العالم مقسمًا إلى قسمين لا ثالث لهما؛ قسم ينتج ويطور ويبدع ويصدر وهو الدول الغربية، وقسم يستهلك ويستورد فقط وهو الدول النامية ومنها الدول الإسلامية.
هذا هو مغزى الاستعمار قديمًا وحديثًا، أعني امتصاص خيرات الشعوب الضعيفة، وجعلها دائمًا تابعة للدول الصناعية الغربية.
لا أجافي الحقيقة إذا قلت إن الاقتصاد هو المحرك أو السبب الرئيس لكثير من الأحداث العالمية، لأننا نعيش في عالم يقدس المال ويسعى إلى الحصول عليه بطرق شتى وفقًا لمبدأ الإيطالي ميكيافيلي: “الغاية تبرر الوسيلة”.
مع التسليم بخطر النوعين السابقين من العولمة السياسية والثقافية، فإن العولمة الاقتصادية هي أشد هذه الأنواع خطرًا وهي المحرك الحقيقي للعالم الغربي.
خامسًا أسباب العولمة
هناك وقائع أربعة أساسية أدت إلى حضور العولمة الطاغي في الوقت الراهن:
حركة رأس المال
أولها: تضخم الشركات المتعددة الجنسية، والتي يضعها تومبسون في موقع القلب من العولمة الاقتصادية، ويصفها بأنها المثال الحي لرأس المال العالمي، ويتمثل في حرية الاستثمارات، وحرية أسعار المواد والعملات والفوائد النقدية، ثم توجيه الإصلاحات الاقتصادية في الدول النامية من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.
حرية التجارة العالمية
ثانيها: عجز دولة الرفاه التي وضع أسسها عالم الاقتصاد البريطاني اللورد جون منيارد كينز، حين نادى بانتهاج سياسة تقوم على تدخل الدولة لحماية الاستقرار الاقتصادي، في محاولة للخروج من الأزمة الرأسمالية المشهورة في نهاية الثلاثينيات.
يتجلى نهج سياسة الخصخصة واعتماد أساليب السوق الحرة، مثل المنافسة وحرية الأفراد والشركات، في المبادرة والاستثمار دون أية قيود من طرف الدول.
إضافة إلى حرص منظمة التجارة العالمية على تقديم تسهيلات للمبادلات التجارية، بإلغاء السياسة الحمائية ونظام التحكم في حصص الصادرات والواردات، ثم تبني سياسة التسويق الحر في مجال المنتجات والأسعار والأسواق.
التطور التكنولوجي
ثالثها: الطفرة الراهنة للتقدم التكنولوجي في مجالات الاتصال والمعلومات، وتتجلى فيما يلي:
– ثورة في وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية بسبب الثورة التقنية المتواصلة، مما جعلها تسهل التنقل والتواصل وتقصر المسافات الجغرافية للسلع والأشخاص عبر العالم.
– ثورة في وسائل الاتصال وتقدم غير مسبوق في قطاع وسائل الاتصالات؛ البريد، الأقمار الاصطناعية، الهاتف، الإنترنت، مما جعل سكان العالم يتعايشون وكأنهم في قرية صغيرة.
تشهد وسائل الإعلام تطورًا كبيرًا وتنوعًا هائلًا سواء الصحافة المكتوبة أو الصحافة المرئية أو المسموعة، مما جعل سكان العالم يعيشون زمنية الوقائع ويطلعون على ثقافات وحضارات الشعوب والأمم.
الولايات المتحدة الأمريكية
أما رابع الوقائع: التي أسهمت في الحضور الطاغي للعولمة راهنًا، فيبدو في قيامها على إطار مؤسسي تملك الولايات المتحدة الأمريكية –باعتبارها وريثة المركزية الأوروبية– السيطرة المباشرة عليه، مكون من نظام استثماري عالمي بإدارة البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD)، ونظام نقدي بإدارة صندوق النقد الدولي (IMF).
كِلا النظامين يقومان بدوريهما في ضبط العلاقات الاقتصادية العالمية، ويضاف إليهما نظام تجاري عالمي بإدارة منظمة التجارة العالمية (WTO)، التي خلفت اتفاقية الجات منذ بداية عام 1995.
تلك التي تحتوي على قواعد ملزمة وآليات تحكم إجبارية، وتعد نفسها لتصبح الحكم الفيصل في ميادين التنافس والوصول إلى الأسواق العامة والقوانين المتعلقة بالاستثمار والعمالة والاتصالات.
اقرأ أيضاً:
سادسًا العولمة وأهدافها وأثرها على حاجات الشباب ومشكلاته
أثر العولمة السياسية على احتياجات الشباب ومشكلاته
التأثيرات السلبية للعولمة السياسية ما يلي:-
- ارتباط العولمة السياسية بوجود قضايا ومشكلات عالمية جديدة، مثل قضايا البيئة، والتلوث البيئي، والإتجار السكاني، والمخدرات، والتطرف والإرهاب، والجريمة الاقتصادية.
- انخفاض الإنفاق الحكومي على مؤسسات تقديم الخدمة وبرامج الرعاية الاجتماعية نظرًا لتبني الخصخصة.
- الحد من دور الدولة وتقلص سلطاتها في بعض المجالات.
- خفض مفهوم المواطنة لدى الأفراد، نظرًا لانتمائهم لكيان أكثر اتساعًا، وهو العالم الجديد.
- إضعاف مفهوم الخصوصية الثقافية للمجتمع، لتسوده ثقافة عالمية ويحل مفهوم الكينونة محل مفهوم المواطنة.
يؤثر ذلك على الشباب وحاجاته ومشكلاته من حيث:-
- انشغال الدولة وتوجيه جهودها نحو مشكلات جديدة استجابةً للنظام العالمي الجديد، وقد يكون ذلك على حساب السياسات والبرامج والخدمات التي تهدف إشباع حاجات الشباب، وبالتالي ظهور مزيد من المشكلات وزيادة معاناته.
- يعاني الشباب في كثير من المجتمعات من مشكلة البحث عن الهوية الثقافية، وأحيانًا ضعف الانتماء القومي، وتأتي الاتجاهات الجديدة للعولمة لتزيد من هذه المشكلة بدلًا من حلها.
أثر العولمة الاقتصادية على احتياجات الشباب ومشكلاته
ينظر إلى العولمة أساسًا أنها مفهوم اقتصادي، إذ استخدم مفهوم العولمة لوصف بعض الأوجه الرئيسة للتحول الحديث في النشاط الاقتصادي في العالم.
أيضًا اتخذت العولمة الاقتصادية شكل تيار متصاعد من أجل فتح السوق، وتنامى هذا التيار مع تصدع نظم الإنتاج في اقتصاديات دول التخطيط المركزي وتحولها إلى اقتصاد السوق.
نشأة العولمة الاقتصادية
تستند العولمة الاقتصادية إلى:-
- تكتل اقتصادي غير مسبوق من أجل اقتصاديات شديدة الاتساع تزايد امتداد كل يوم.
- تقديم منتجات جديدة واسعة الاستخدام، يتم إنتاجها بأحجام اقتصادية كبيرة فتنخفض أسعارها.
- استخدام نظام تسويق يؤدي الاتاحة على جميع المستويات، خاصة مع انتشار نظام التجارة الإلكترونية.
- استخدام نظم استثمار فعالة مع البشر، تقوم على البحث عن المواهب القادرة على الابتكار وخلق الفرص الجديدة في الاستثمار.
- وفي إطار العولمة يبرز دور الشركات المتعددة الجنسيات في عمليات الإنتاج.
كل ذلك أدى إلى انتشار الفقر وزيادة نسبة الطلاق وتفكك الأسرة وزيادة نسبة الجريمة في المجتمع.
كما أدت العولمة الاقتصادية إلى زيادة معدلات الجريمة والفقر في دول الاتحاد السوفيتي السابق، وأصبحت تجارة المخدرات هي المصدر الرئيسي للدخل في كثير من دول العالم الثالث، وذلك في إطار تغلب النزعة المادية التي خلفتها ظاهرة العولمة.
كيف تؤثر العولمة الاقتصادية على حياتنا؟
يؤثر ذلك على احتياجات الشباب ومشكلاته في الآتي:-
- تفاقم مشكلات البطالة، وعدم قدرته على إشباع احتياجاته نتيجة زيادة مشكلة البطالة وتقلص فرص العمل، وخاصة بين الشباب غير المؤهل.
- انتشار أنماط استهلاكية المظهرية، وزيادة الصرف على المنتجات الاستهلاكية، ما أدى إلى تغيير نمط حياة الشباب وخلق حاجات جديدة لم تكن موجودة من قبل، ما شكل عبئًا اقتصاديًا ونفسيًا على الشباب وشعورهم بالحاجة.
- فشل كثير من الشباب في إشباع حاجاتهم بطريقة سلمية ومشروعة، ما أدى إلى اتجاه البعض إلى الانخراط في وسائل غير مشروعة لإشباع حاجاتهم وحل مشكلاتهم.
أدي ذلك إلى ظهور مشاكل جديدة وزيادة معاناة الشباب، مثل زيادة مشكلات الفقر والجريمة والانحراف والاتجاه نحو المخدرات والبطالة والهجرة غير الشرعية.
أثر العولمة الثقافية على احتياجات الشباب ومشكلاته
تلعب العولمة الثقافية دورًا هامًا في تشكيل البنية الثقافية للشخصية الإنسانية بوجه عام، كما تؤثر بوجه عام على الثقافة والوعي والإدراك واللغة والسلوك والهوية والانتماء والإدراك الاجتماعي داخل كل مجتمع على حدة، وعلى المستوى العالمي على السواء.
إيجابيات العولمة
من الآثار الإيجابية للعولمة الثقافية:-
علي مستوى الاتصال الشخصي عند ظهور شبكة المعلومات (الإنترنت) وانتشارها عالميًا، قد تتيح مجالات لا حدود لها للمعرفة واكتساب المعلومات بجانب ما وفرته من سهولة والاتصال وقلة التكلفة.
سلبيات العولمة
أما الآثار السلبية للعولمة الثقافية:
- زيادة اغتراب الشباب عن مجتمعه، ومعاناته من القلق والشعور بالنقص لعدم قدرته على إشباع احتياجاته بالطريقة التي تشبع بها الثقافات الغربية احتياجات الشباب.
- زيادة قيم ثقافية المظهرية، التي تأخذ من الثقافات الأخرى المظاهر والجوانب السلبية التي تبهر الشباب، دونما التركيز على الجوانب الإيجابية الثقافية، مثل احترام الوقت وقيمة العمل وأهمية الابتكار والتجديد والتحديث.
- غياب بعض القيم الأساسية، أو على الأقل إضعافها، سواء كانت قيمًا اجتماعيةً أصيلةً أو قيمًا دينيةً، مما يؤدي إلى بعد الشباب عن هذه القيم وتمسكهم بقيم أخرى غريبة عن مجتمعنا.
المراجع
كريمة بن دراج: القضايا الدولية الراهنة (الجزائر: جامعة عبد الحميد مهري قسنطينة، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، 2019).
سيار الجميل “العولمة والمستقبل – استراتيجية تفكير” (الأهلية للنشر والتوزيع، ط 1، عمان، المملكة الأردنية الهاشمية، 2000).
برهان غليون وسمر أمين “ثقافة العولمة وعولمة الثقافة” (دمشق، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر المعاصر، الطبعة الثانية 2000م).
صادق جلال العظم “ما هي العولمة” (بيروت، مجلة الطريق، العدد الرابع، السنة 56، 1997) ص 28.
علاء الدين ناطورية “العولمة وأثرها في العالم الثالث – التحدي والاستجابة” (عمان دار زهران للنشر والتوزيع، 2013م).
إبراهيم شوقار “فلسفة التربية في عصر العولمة” (قراءة نظرية من مفهوم إسلامي)، (الرياض، ندوة كلية التربية بجامعة الملك سعود، 2004م).
جلال جميل الأزهري “العولمة والمنهج الاقتصادي الإسلامي” (عمان، دار ومكتبة الحامد للنشر والتوزيع، 2014م).
صبري حافظ “العولمة والثقافة القومية، آليات الهيمنة والمقاومة” (القاهرة، مجلة إبداع، الهيئة المصرية العامة للكتاب)، العددان الثاني والثالث، فبراير ومارس، 1999).
رمزي زكى “العولمة المالية – الاقتصاد السياسي لرأس المال المالي الدولي” (القاهرة، دار المستقبل العربي ط1، 1999).
بول هيرست وجراهام تومبسون “مساءلة العولمة – الاقتصاد الدولي وإمكانات التحكم، ترجمة إبراهيم فتحي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة ط1 1999م).
جون جراي “الفجر الكاذب – أوهام الرأسمالية العالمية” ترجمة أحمد فؤاد بلبع (القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، العدد 124، يناير 2000).
محمود أمين العالم “العولمة وخيارات المستقبل، كتاب قضايا فكرية” (القاهرة، دار قضايا فكرية، الكتاب التاسع عشر والعشرون، ط1 أكتوبر 1999 ).
إسماعيل صبري عبد الله “الكوكبة الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية، مجلة الطريق اللبنانية” (بيروت، العدد الرابع، السنة 1997).
جمال شحاتة حبيب “قضايا وبحوث واتجاهات حديثة في تعليم وممارسة الخدمة الاجتماعية” (الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 2010م ).
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا