الجندي المغربي في أشعار الحرب الأهلية الإسبانية
منذ انتهاء الصراع السياسي في شبه جزيرة إيبريا لصالح الطرف المسيحي، لم يتوقف الجدل حول تقييم الدور الذي لعبته الحضارة الإسلامية العربية، كونها أحد مكونات الثقافة الإسبانية.
سأترك الآن جانبًا تلك المواجهة التي حدثت في أواخر القرن السادس عشر، بين مؤيدي طرد الموريسكيين وأولئك الذين مالوا إلى استيعابهم داخل المجتمع المسيحي.
ذلك لأن خلفيات المعركة كانت المصالح الخاصة لهذا الطرف أو ذاك؛ رجال الدين كانوا يسعون إلى تحقيق الوحدة الدينية الكاثوليكية في البلاد، وكانوا يذهبون أحيانا إلى حد إعاقة أي مجهود يبذل لاجتذاب المسلمين.
المواطن العادي كان يرى في الموريسكي منافسًا صعبًا في نواحي الصناعة والتجارة، وكان يرى أن طرده سيعود عليه بالخير.
على الجانب الآخر كان الإقطاعيون الإسبان يفعلون كل ما بوسعهم من أجل الإبقاء على المسلمين في إسبانيا، وتستّر كثير منهم على من يمارس الشعائر الإسلامية المحظورة قانونًا، بل ووصل بعضهم إلى حد تشييد مسجد إرضاء للمسلمين.
الوجود الإسلامي في الأندلس .. استعمار أم ثورة حضارية
يبدأ الجدل الفكري الذي أعنيه في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، حينما بدأ ما يمكن أن نطلق عليه “الاستعراب العلمي” في إسبانيا، أي دراسة الحضارة العربية الإسلامية دراسة منهجية، لبيان ما أضافته إلى إسبانيا من جوانب إيجابية أو سلبية.
كان هناك فريقان: أحدهما يرى أن الوجود الإسلامي في إسبانيا كان فاتحة خير على البلاد، فقد ازدهرت قرطبة وإشبيلية وغيرهما حين كانت بقية بلدان أوروبا تعيش في ظلام العصور الوسطى.
يقول أنصار هذا الفريق إن إسبانيا لو واصلت الطريق لكان لها شأن آخر بين الأمم.
أما أنصار الفريق الثاني فلا يرون في الوجود الإسلامي إلا أثارًا سلبية، وينسبون إلى المسلمين تخلف إسبانيا عن بقية الدول الأوربية.
مظاهر آثار الحضارة الإسلامية في الأندلس
هذا الجدل الفكري بدأ ولم ينته إلى اليوم، نعم إلى اليوم، فقد نشر أحدهم منذ سنوات قلائل كتابًا ينفي فيه أي أثر إيجابي للحضارة الإسلامية العربية.
لعلنا نذكر تلك المعركة الشهيرة التي دارت رحاها بين كل من أميريكو كاسترو وسانشيث ألبورنوث حول الواقع التاريخي لإسبانيا.
منذ أن بدأ الجدل وحتى هذه اللحظة كانت هناك خصائص حددت ملامح المتجادلين بشكل عام.
كان المحافظون هم الذين ينفون أي أثر إيجابي للحضارة الإسلامية، وكان أصحاب الفكر التقدمي المتحرر هم الذين يعترفون بإسهام تلك الحضارة وفضلها على إسبانيا.
الاستثناء الوحيد كان في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، فقد شارك العرب في صفوف الجمهوريين والمتمردين على السواء، وكانت لتلك المشاركة آثار لا تزال قائمة إلى اليوم.
الحرب الأهلية الإسبانية
لكي يكون حديثنا عن المشاركة العربية في الحرب الأهلية الإسبانية أكثر وضوحًا علينا أن نعود إلى بدايات القرن العشرين حين كانت الدول العربية كلها ترزح تحت الاحتلال الأجنبي، وكانت حركات التحرر العربية في أوج قوتها.
في ذلك الوقت كان العالم ينقسم إلى قسمين: دول استعمارية وشعوب تسعى إلى التحرر، وكان من الشائع آنذاك أن يناصر الثوار في مكان ما ثوارًا في مكان آخر.
هذا ما يفسر لنا انضمام متطوعين عرب إلى جانب قوات الجمهورية الإسبانية ضد الجنرالات الذين أرادوا تقويض سلطتها والقضاء على المكاسب التي حققتها الطبقات الفقيرة تحت الحكم الجمهوري.
الجمهوريون العرب المنسيون في الحرب الأهلية الإسبانية
طبقًا للوثائق المتوافرة فقد شارك متطوعون عرب من فلسطين والجزائر والمغرب وتونس إلى جانب قوات الجمهورية، لكن الوثائق الإسبانية لا تكاد تشير إلى تلك المشاركة، وذلك لعدة أسباب منها:
1- قلة عدد المتطوعين العرب مقارنة بأعداد المتطوعين من جنسيات أخرى.
2- كانت الدول العربية في ذلك الوقت خاضعة للاحتلال، من ثم فقد كان اسم المتطوع العربي يدرج في خانة الدولة التي تحتل بلاده.
قد اهتمت الدول الاستعمارية المشاركة في حرب إسبانيا ببطولات أبنائها فقط، ولم تكن الدول العربية في وضع يسمح لها بفعل الشيء نفسه مع المتطوعين من أبنائها.
3-السبب الثالث، وهو الأهم: لقد غطت مشاركة القوات النظامية المغربية إلى جانب فرانكو –وما ارتكبته من فظائع– على أنباء انضمام متطوعين عرب في صفوف الجمهورية، إذ تراوح عدد المغاربة في قوات فرانكو بين سبعين ألفا في أقل التقديرات، وثلاثمائة ألف في أقصى تقدير، على أن رقم مائة ألف قد يبدو قريبًا من الصواب.
اقرأ أيضاً: الحرب الأهلية الأمريكية
تعرف على: قصة الأندلس
اقرأ أيضاً: شيخ العرب همام ومشروع استقلال منسي
الجندي المغربي في الحرب الأهلية الإسبانية
مع الحرب الأهلية الإسبانية حدث تغير كامل في موقف الفكر الإسباني من الحضارة العربية الإسلامية، فلأول مرة يقف اليسار الإسباني موقف الرافض للثقافة العربية.
لقد أدت الفظائع التي ارتكبها الجنود المغاربة، ثم ما أعقب ذلك من دخول فرانكو مدريد محاطًا بجنود مغاربة، أدى كل ذلك إلى أن يتحول لفظ “مورو” إلى مرادف للوحشية والظلم والهمجية.
ربما لأول مرة في تاريخ الفكر الإسباني نجد اتجاهًا عامًا مؤيدًا للعرب والمسلمين بين المحافظين الإسبان.
لقد دافع هؤلاء عن قيم الحضارة العربية الإسلامية، وقالوا إنه من الطبيعي أن يشترك المسلمون والمسيحيون –وهم يؤمنون بإله واحد– في وجه عدو مشترك لا يؤمن بإله ولا بدين.
تطوع البعض الآخر فزعم أن الإسبان والمغاربة كانا في الأصل شعبًا واحدًا في أحقاب سابقة ولم يفرقهما البحر إلا منذ زمن قليل نسبيًا!
المغرب يعالج ماضيه المظلم في حرب فرانكو الإسبانية
على أن المتأمل لتطورات الحرب واشتراك المغاربة في الحرب إلى جانب فرانكو يجد أن الدين لا علاقة له بموقف المغاربة، كان هؤلاء يطمعون في الاستقلال، وحاربوا قوات الاحتلال الإسباني من أجل ذلك الهدف.
لما بدأت الحرب طالبوا الفريقين –كلًا على حدة– بحقهم المشروع في الحرية وتقرير المصير.
راوغ الجمهوريون في بداية الحرب، أما فرانكو فقد كان واضحا في عرضه: إنه يتفهم تطلعات شعب المغرب ورغبته في الحرية، ولا يمانع في منح الحكم الذاتي –بل والاستقلال– للمغرب، من أجل ذلك انضم المغاربة إليه.
مما يؤكد مكانة فرانكو لدى المغاربة آنذاك أنهم أطلقوا عليه لقب “سيدي فرانكو”. أما في بقية الدول العربية فقد ذاع صيته كمناصر للشعوب المستعمرة، وهكذا استحق لقب “صديق العالم العربي”.
الدراسة التي أقوم بها لم تكتمل بعد، ولهذا فإنني لا أدري الترتيب الزمني لبعض الأحداث، لكن الشيء المؤكد هو أن فرانكو قد تحمل نفقات بناء مسجد ونفقات رحلة الحج لعدد كبير من الأشخاص.
عوامل ساهمت في انضمام المغاربة إلى فرانكو
هناك عوامل أخرى لا يمكن أن نغفلها أدت إلى انضمام البعض إلى قوات فرانكو:
- الفقر، كنتيجة طبيعية للجفاف الذي تعرضت له مناطق مغربية قبيل اندلاع الحرب الأهلية.
أدى الجفاف إلى انعدام وسائل المعيشة في بلد يعتمد أساسًا على الزراعة والرعي، وهكذا أصبح التطوع في جيش فرانكو الوسيلة الوحيدة تقريبًا لإعالة الأسر المغربية المقيمة في تلك المناطق.
- رغبة أهل المغرب في امتلاك السلاح لمحاربة المحتل، فقد كان اشتراك المغربي في الحرب يعني بالضرورة تسلمه بندقية وتدريبه على استعمالها، وكانت هذه هي الطريقة المتاحة آنذاك للحصول على سلاح.
- بعض من ذهبوا إلى إسبانيا لم يذهبوا بمحض إرادتهم، بل اختطفتهم قوات فرانكو من بيوتهم ومن مزارعهم ورحّلتهم قسرًا إلى إسبانيا، وقد اعترف بذلك بعض الأسرى المغاربة الذين سقطوا في قبضة الجمهوريين.
- البعض الآخر ذهب إلى إسبانيا طمعًا في الحصول على المال، وقد وعد فرانكو بعضهم وعودًا مغرية.
الجنرال فرانكو .. كيف جعل من المغاربة يده الباطشة على الإسبان؟
إن موقف الجمهورية الإسبانية من المغرب قبيل الحرب الأهلية وفي أثنائها لم يكن يقدم للزعامات المغربية خيارات كثيرة.
الجمهورية رفضت منح المغرب الاستقلال، ثم هي سعت إلى استغلال المغرب –لأنها منطقة تابعة لها– كسلعة تبيعها لمن تشاء للحصول على مقابل.
قد أبدت بالفعل استعدادها للتنازل عن المغرب لصالح فرنسا أو إنجلترا في مقابل ضمان مساندة إحدى الدولتين لها ضد فرانكو. إذن فلم يكن هناك خيار أمام المفاوض المغربي سوى خيار فرانكو.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا