مقالات

“المدينة” بين الغربة والاغتراب .. الجزء الأول

صنع الله القرية، وصنع الإنسان المدينة، فما أوسع الهوة بين إبداع الخالق وإبداع المخلوق. وعلى قدر ألفة القرى وسكونها، تأتي وحشة المدن وصخبها.

وسط هذا الصخب وتلك الوحشة الضارية يضيع كثيرون، ويهيمون على وجوههم، متنقلين في ذهاب وجيئة بين الحارات المتعرجة والميادين الوسيعة، وهم يحملون فوق جباههم لافتة تقول “غرباء” أو “طالبو عمل وسكن”.

إنها العلامة التي ترقد أيضا في قلب ونفس كل الذين يحملون أمتعتهم في أياديهم وآمالهم في عيونهم، زاحفين من الريف إلى المدن، إما أنهم ساعون وراء الرزق، أو طالبو علم، أو باحثون عن متعة، أو مغامرون راغبون في تجريب عالم جديد،

أو متمردون على الجدران المصمتة والخضرة اليانعة التي ملأت عيونهم، فجاءوا ليفرغوا ما فيها تحت أقدام البنايات الشاهقة الموحشة، أو يلونونه بالأحمر الزاعق، والأصفر الفاقع، وأسود الأسفلت الذي يئن من دبيب الآوادم المتعبين، من صراع على المكانة الاجتماعية والمناصب السياسية والثروة.

ما هو مفهوم المدينة؟

لكن المدينة على تنصلها من القرية لا تستطيع أن تهجرها أو تطردها تماما من ذاكرتها، بل تستحضرها في الأشجار المغروسة على جنبات الشوارع الوسيعة، وفي الحدائق التي تفرش بساطها الأخضر بين البنايات الشاهقة، وفي نافورات المياه التي ترسم أشكالا مختلفة،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وتنثر حباتها الشفافة على وجوه العابرين، وفي الحركات الاجتماعية المدافعة عن البيئة، والمطالبة دوما بأن يكون اللون الأخضر في كل مكان، وفي أيادي نساء جميلات يزرعن أصص الورد في الشرفات، ورجال يرمون أذرع اللبلاب على صفحات الجدران الواقفة في وجه الزمن.

وليست كل المدن سواء، فهناك العتيقة العريقة الضاربة في جذور التاريخ، وهناك الطارئة الجديدة على الدنيا، وهناك التي تتجاور فيها بنايات الفرق بين الواحدة وأختها مئات بل آلاف السنين، وهناك التي لا تجد فرقا بين قديمها وجديدها سوى بضع سنوات أو عقود على الأكثر.

أنواع المدن

مفهوم المدينةهناك المدينة التي نبتت على ضفاف قرية أو طوقتها في دأب فزادتها ضخامة وغربة، فقال الناس: “الريف قد تمدين”، وهناك أخرى كانت في الأصل مدينة ونبت الريف حولها أو في جوانب منها، كزوائد دودية، فقال الناس: “المدينة تريفت”، فوجدنا الموظفين في المنتصف، والفلاحين على الأطراف.

وهناك مدن عريقة أهملها أصحابها، فتركوا للمعمار الحديث، بقبحه الطافح وجهامته، فرصة ليزحف ويرمي ظلاله الكئيبة على البنايات الخفيضة الوديعة المسكونة بالتاريخ والفن، فاختلط الحابل بالنابل.

وهناك مدن حافظ عليها أصحابها فتركوها على حالها، ولم يمدوا إليها من مظاهر التحديث والحداثة إلا بالقدر الذي لا يأتي على شخصيتها الحقيقية، ولا يضيع معالمها الأصيلة، ولا يفقدها رمزيتها التاريخية، وحرصوا على أن يجعلوا من البيوت التي سكنها المشاهير أو التي شهدت أحداثا لا تنسى مزارات سياحية.

الفارق بين المدينة الصغيرة والمدينة الكبيرة

ويفرق علماء الاجتماع بين المدينة الصغيرة “البلدة” Town وبين المدينة الضخمة Megalopolis والتي هي تشير حاليا إلى ضواحي واسعة الأرجاء، تترابط وظيفيا،

وكذلك المدينة الكبرى Metropolis وهي تشير إلى المراكز الحضرية الكبرى والضواحي المحيطة بها، وأيضا المجمع الحضري أو البقعة الحضرية Conurbation وهي تشير التجمع الذي يضم مدينة كبرى، تطوقها ضواحي مترامية الأطراف، لتكون بيئة حضرية وصناعية، تنمو باضطراد.

وتتدخل الدولة لتربط بين هذه الأحياء عبر شبكة نقل عصرية، بما يوحدها في خاتمة المطاف، لا سيما مع ميلاد الأسواق ومناطق العمل وأماكن التريض والترفيه.

وليس كل أحياء المدينة الواحدة سواء، فنحن نتحدث دوما عن “قلب المدينة” أو المضغة الأساسية التي نما منها كل هذا الجسد الأسمنتي المترهل ونسميه “Down Town”، ومنه يبدأ الحكماء والفاهمون رحلاتهم لاكتشاف معالم أي مدينة يحلون بها، فيقولون لمن يدفعونهم إلى الفنادق الفارهة والمخادع الناعمة: “نريد أن نرى القلب”.

اقرأ أيضاً:

الموروث الخطأ بين الهوية والاغتراب

الاغتراب والهوية 

نجيب محفوظ في صحبة المهمشين

أنواع الأحياء

مفهوم المدينة

نتحدث أيضا عن الأحياء الجديدة التي تنمو باستمرار، ويصيب بعضها ما قبله بالقدم، ونفرق بين ما نطلق عليها “أحياء شعبية” يسكنها بسطاء الناس ممن ينتمون إلى الشريحة العليا والمتوسطة في الطبقة الدنيا والشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى،

وما نسميها “أحياء راقية” والتي يقطنها علية القوم، والشريحة العليا من الطبقة الوسطى. وهي تتفاوت في إمكاناتها بين عمارات تحوي شققا موزعة على أسر عديدة، وبين بيوت وحيدة فخيمة تقطنها أسرة واحدة أو عائلة نطلق عليها “فيللا”.

الأحياء القديمة

الصنف الأخير من الأحياء هناك قديمه، الذي يحتفظ بعراقته ووضعه الاجتماعي رغم تقادم عمره، وهناك الجديد الذي تنشئه الطبقات الثرية وتقيم حوله الأسوار التي تحميه من أيدي الطامعين من اللصوص والجائعين والمنتقمين والمشردين.

وفي الوقت الذي قد ينيخ الدهر على سكان الشطر الأول فتتراجع مكانتهم الاجتماعية وثرواتهم ولا يحتفظون من إمكانياتهم القديمة إلا برائحتها أو ذكرياتها التي يستحضرونها، إما راغبين في إثبات تميزهم، أو من باب المباهاة بأنهم كان لهم مجد ومكانة قد راحت، أو لإخفاء عوراتهم الراهنة التي راكمها الزمن.

هناك من هذا الصنف ما يفقد خصوصيته ورونقه بمرور الزمن، ولا يعطى سكانه حتى فرصة الحديث عن ماضيهم التليد، أو مكانة حيهم التي تراجعت مع تعاقب الأجيال، حيث تكلح البنايات وتتصدع،

ويزيد السكان على الحجرات، ويضغطون تحت أقدامهم اللاهثة بقايا الجمال النائم منذ زمن طويل، فيغيب تباعا، ويزحف إلى الشوارع الباعة الجائلين، والعربات الصغيرة الهائمة.

الأحياء العشوائية

هناك أيضا الأحياء العشوائية، وهي الضيف الجديد الثقيل على المدينة، الذي أتى إليها مع هجرات القرويين الساعين وراء ما يقيم أودهم، أو الهاربين من الفقر والجوع والمرض والإهمال المزمن.

بعض الآتين منهم إلى المدينة لا يعودون، إنما يبقون هنا باحثين عن مأوى، ولا يجدونه إلا في الزوائد الدودية المشرفة على التعفن، التي تطول جوانب المدينة، أو تسلل إلى داخلها في بعض المواضع، كبيوت متداعية، أو علب أسمنتية مبعثرة، أو عشش وأكواخ من الصفيح، يهزها الريح.

سمات العشوائيات

بل وصل تضخم هذه الحالة إلى درجة أننا نجد علماء الاجتماع قد خصصوا لها مصطلحا فريدا هو “مدن العشش” Shanty Towns ، وهي منتشرة في دول العالم الثالث بكثافة، ولا يخلو منها العالم الأول أيضا.

من سمات هذا النوع من المساكن شغل الأرض بطريقة غير قانونية، عبر وضع اليد أو التجبر، والتجمع في البقع الاقتصادية ذات القيمة الاقتصادية المتدنية نسبيا،

حيث يقوم من وضعوا أقدامهم فيها، أو أياديهم عليها، ببناء بيوت لهم بلا تراخيص قانونية، ودون التقيد بشروط العمران التي حددتها الدولة، ولذا تعاني هذه المباني من نقص المرافق والخدمات.

قد تمتد لها يد أهل الحكم والإدارة فيما بعد محاولة أن تنظم المبعثر منها، وتوفر الخدمات مثل المياه العذبة والصرف الصحي والكهرباء وتعبيد الشوارع المتعرجة وتشجيرها، وكذلك مكافحة الجرائم الساكنة فيها.

(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري