البئر المقدسة
أمر جلل تتعرض له القبيلة والقبائل المجاورة لم تعهده من قبل، ولم يكن في الحسبان، وربما لا أتذكر أن أبي، رحمه الله، قد حكى لي عن شيء كهذا، بل لا أخفيكم أنني جلست مع جدي -الذي جاوز المئة عام- مرات أستوضح منه الأمر، فنفى تماما أن تكون القبيلة أو حتى القبائل المتاخمة قد تعرضت لمثل هذا الحدث المروع؛
ذباب صغير ظهر بكثافة في القبائل المجاورة وهو على مقربة منا، وقد تأكدت الأخبار أنه قد أصاب بعضا من شباب القبيلة المتاخمة للقبائل التي أصيبت به، وهو شيء مفزع، حيث إنه بمجرد ملامسته الشخص يصاب بحمى شديدة يموت على إثرها.
وكان لا بد إذن من عقد اجتماع طارئ للقبيلة، وذلك لمتابعة آخر المستجدات لهذا الذباب والعمل على إيقاف مجيئه للقبيلة بأية وسيلة كانت، وما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها حتى لا يتفشى إن حدث وتسلل.
اجتماع طارئ
وقد وردت الأخبار، وتنامت الأنباء من القبائل المصابة بهذا الوباء أنه يؤدي إلى شيء يقع عليه من ماء وزرع وضرع، ولذلك كان لا بد من إيجاد حل، خصوصا وأن قبيلتنا لا تمتلك من الإمكانيات المادية الضخمة لمواجهة هذا الوباء، خصوصا مع زيادة ملحوظة في عدد السكان.
وعلى الفور أرسل سيد القبيلة في أرجائها حاشرين، بضرورة الحضور، رجالا ونساء، وعدم التخلف مهما كانت الأسباب والمبررات، وبالفعل استجاب جميع الرجال إلا من كان لديه عذر قاهر، وسبب مقنع.
وفي الساحة الكبيرة نصبت خيمة السيد، ساد الهدوء المكان، وخيم الصمت على الجميع، وبدأ السيد في الكلام، وقد ارتفع صوته، وعلت نبرته، واشتدت حدته، مما يومئ بأن ثمة أمرا خطيرا، وشيئا ذا بال، ثم قال:
“باسم الإله الواحد نبدأ الاجتماع الخطير لهذا اليوم الاستثنائي”، وقبل أن يكمل تلاوة الديباجة لاحظ خروج جميع النسوة اللائي قد بادرن بالحضور مبكرا، لكنهن فجأة تركن الاجتماع، شيء غريب!
السيدة اللعوب
ولم يتبق إلا الرجال، ربما كان ذلك شيئا مخيبا للآمال لدى البعض الذي لم يصدق نفسه، وهو يراهن أرسالا في صورة سيئة، وقد تركن هذا الاجتماع المصيري المهم الذي يحتاج إلى تضافر كل الجهود رجالا ونساء.
وربما كنت من القلائل الذين لم يندهشوا من جراء هذا الفعل، لقد كنت متوقعا لشيء كهذا، ولا تسألني لماذا كنت متوقعا لذلك، ربما كانت لدي بعض المعطيات، ومع أنني كنت أصغر الحاضرين سنا، فقد نظرت إلى إحداهن وهي تغادر الساحة، وتغمز لي بطرفها الفاتر، بيد أنني آثرت البقاء في هذا الاجتماع، شيء غريب!
فمن تكون هذي السيدة اللعوب؟ ولماذا صنعت معي أنا بالذات ما صنعت؟ وهل كانت تتوقع أن أترك هذا الحادث الجلل الذي سيتوقف عليه مصير القبيلة؟ بل ربما أيضا يتوقف عليه مصير القبائل الأخرى، هل كانت تتوقع أن أتبعها؟! يا الله!
لقد كانت ساذجة إلى درجة كبيرة، إذ كيف لي أن أغامر بمستقبلي ومستقبل القبيلة، بل مستقبل كل القبائل المجاورة وأتبعها؟ ولا أخفيكم أنها كانت امرأة ذات جمال فتان وطرف وسنان.
مقترحات هامة
عاود السيد الكلام وأخذ كل منا موقعه، وقد لفت نظري شيء مهم، وهو أن الجميع ينظرون إلي، ربما كان بعضهم يتوقع أن أترك هذا الاجتماع، وأتبع هاتيكم الحسناء، وربما تضايق آخرون لحداثة سني وقربي من السيد، لكن فليذهبوا جميعا إلى الجحيم، فأنا لم أسع مطلقا إلى التزلف من السيد أو من الحاجب، كل ما في الأمر أنني كنت أفكر في هذا الأمر الجلل،
وكانت لدي بعض الأفكار التي يمكن الأخذ بها، وبعض الاحترازات التي يمكن تطبيقها، ومن ثم يمكن القضاء على هذا الوباء، مجرد اقتراحات فكرت فيها، وحرصت على الحضور هذا اليوم من أجل هذا السبب، وقد تسامع بعض أفراد من قبيلتي بهذه المقترحات،
فرأوا أنه من الأفضل أن أطرحها بنفسي في ذلكم الاجتماع في حضور السيد والوجهاء، مع أنني ويعلم الله لم أكن أطيق البعض منهم، حيث فاحت سيرتهم فسادا ورشوة، لذلك كان لا بد من تلبية الدعوة.
اقرأ أيضاً:
مراجعة فيلم “في هذا الركن الصغير”
أسباب الوباء
نسوة القبيلة
لحظات من الصمت الرهيب، ثم أكمل السيد الكلام، ويبدو أنه كان منتظرا حتى تخرج النساء: “الجمع الكريم، باسم الإله الواحد نبدأ اجتماعنا أيها السادة، السلام عليكم، إن القبيلة تمر الآن بأزمة لم نعهدها من قبل، ولذا وجب علينا التكاتف لإيجاد حل لما نحن فيه”،
ثم أردف قائلا: “إنه شيء غير متوقع، ولا أخفيكم سرا أيها السادة، فإن ما نمر به في الوقت الراهن ربما سببه وجود النسوة في اجتماعاتنا، وقد تنامى إلى سمعي أن الكثير منهن خائنات، حيث كن يقمن بنقل أسرار القبيلة إلى عشاقهن من القبائل الأخرى، وقد أحسنَّ صنعا حينما خرجن، ولتعلموا أنني كنت سأفعل ذلك معهن بالقوة، فالحمد لله أنهن قد خرجن.
البئر المقدسة
أيها السادة، إن السبب الثاني لما نحن فيه من ابتلاء من وجهة نظري، هو عدم الاغتسال والتطهر من البئر المقدسة”، وهنا بدأ الجميع يتهامسون ويتناقشون فيما بينهم، بينما سرحت بخيالي بعيدا إلى هذه البئر المقدسة حيث تدار حولها الأساطير عن عذوبة مائها ونقائه، وقد سمعت من جدي أن أجداده كانوا يحكون أن هذي البئر كانت هنا منذ آلاف السنين،
ولا يعلمون بالضبط، كيف نشأت ومن ذا الذي قام بحفرها، منهم من يقول إن الجن هم من فعلوا ذلك، ومن قائل إنها الشياطين، وإن كانوا يستبعدون ذلك، لكنه رأي مطروح، ومن ثالث إنهم استيقظوا في يوم من الأيام فوجدوها وقد حفرت، ومن ثم بدأوا في التحلق حولها والتجمع، ونشأت قبيلة السيد، أكبر قبيلة في المنطقة.
حارس البئر المقدسة
وتتوارد الأخبار عن حارسها المبارك، الذي يقف عليها، وكيف غدت له مكانة مقدسة، اكتسبها من حراسته للبئر، وأصبح شأنه معظما، ومن ثم زادت هيبته عند الناس ربما تقترب من مكانة السيد المهيب، وكان الاغتسال منها مرة واحدة كل شهر كفيلا بإعطاء الروح طمأنينة وسكينة،
بيد أن الأمر الغريب أن الناس في الفترة الأخيرة قد أهملوها، وما عادوا يتعهدونها بالرعاية، حتى كادت تردم وتهدم، وإن ظل الحارس مرابطا ومرابضا في مكانه لا يَريم، ملازما إياها ملازمة الكلب لأصحاب الرقيم.
والأمر الطريف أيضا أن هذا الحارس نفسه قد غدا من الأساطير، خصوصا وأن أحدا لا يعرف غيره من عشرات السنين، فلم يتزوج، ويقال إن عمره قد جاوز المئة، لكنه لا يبدو عليه شيئا من أثر هذي السنين سوى بعض الندوبات في وجهه التي زادته بهاء وإشراقا،
وهو مع ذلك لا تكاد تجده متحدثا، فهو دائم الصمت، كثير السكوت، إلا حينما يذهب أفراد القبيلة إلى البئر، فتجده يرحب بهم، مجهزا لهم مكان الاغتسال، ثم يصافحهم مقبلا، ومودعا بابتسامة رقيقة، رابتا على أكتافهم، فيكون ذلك علامة للرضا، وإيذانا بانتهاء الطقس المقدس.
القضاء على الوباء
وأذكر أنني من القلائل الذين كانوا يداومون على الاغتسال من هذي البئر، لا أكاد أنقطع شهرا، بل إنني كنت في بعض الأحيان أذهب أكثر من مرة، وكنت كلما اغتسلت فيها تسري في جسدي طاقة غريبة، وتملأ سراديب روحي، وتنعش فؤادي، وأحس بأنني قد ولدت من جديد، كائنا نورانيا، لطيفا، شفيفا.
دار كل هذا الحديث في ذهني، ولم أنتبه إلا وكان السيد يكمل كلامه عنها، قائلا: “أيها السادة، لا بد أن نذهب جميعا لنتطهر ونغتسل من البئر المقدسة، أيها السادة، أيها السادة، يجب أن نتعاهد جميعا الآن، نعم الآن نتعاهد على ألا نهملها أبدا، مهما حدث، ومهما كانت الظروف”،
وهنا تعالت الأصوات، فأكمل السيد: “اسمعوا، أرجوكم اسمعوا، لن نتخذ أية قرارات إلا بعد أن نقوم جميعا بالاغتسال من هذي البئر المقدسة، ثم نعتذر للحارس المبارك عما بدر منا في التقصير في حقه وحق البئر، نعم الاعتذار له، لكن قبل أن نذهب إلى هناك يجب أن نغير جميعنا ملابسنا، وأن نتخلص من القديمة”،
وهنا نظر كل فرد إلى الآخر، وكأنه يراه لأول مرة، هل سيفعلونها، لقد كانت البئر مهجورة منذ زمن، بيد أن السيد أكمل قائلا: “وسأبدأ أيها السادة الكرام بنفسي”، وهنا شمر ثيابه، ثم ألقى بها، ثم ذهب إلى البئر وتتطهر واغتسل،
وهنا هلل الجميع، وما هي إلا ساعات قليلة إلا وقد اغتسل الجميع، وهنا وما هي إلا لحظات نورانية حتى جاءت ريح طيبة عمت المكان، وغطت الأفق، ثم جاء الخبر الميمون بانقشاع الوباء من القبيلة المتاخمة، فذاعت الزغاريد، واطمأنت قبيلة السيد.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
**************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا