قضايا شبابية - مقالاتمقالات

بين مثالية الشباب وزهد الشيوخ

يُخَيَّلُ إليَّ أحيانا أَنَّ الفرد الواحد تتكون شخصيته من ثلاث نماذج متتالية. (ليس هذا لازما، ولذا عزيزي القارئ تجاوز الخلاف والجدل في هذه النقطة، وتابع معي مشكورا).

مرحلة الشباب

فالإنسان منَّا حين يبدأ في التغير الجسماني وبداية النضوج ويدخل في بداية توديع مرحلة الطفولة (التي تربى فيها تربية جيدة) مع نمو التعليم والقيم والأخلاق،

ولأنه يتصف بالشباب والحماس وقدر من براءة الطفولة وصدقها يكون صادقا في ممارسة قيمه وأخلاقه التي يؤمن بها ويتعلمها، يطبقها بحذافيرها، ولا يقبل أبدا أن يتهاون فيها قليلا، حيث إن القيم بالنسبة له في هذه المرحلة إما أبيض أو أسود.

تلك مرحلة يمكن تشبيهها بأن الفرد فيها مثالي، بمعنى ملتزم حرفيا بالقيم، له مبادئ واضحة والأمور بالنسبة له لا غموض فيها ولا ضبابية، ولماذا الضبابية؟ فالأمور إما صواب وإما خطأ. وهي مرحلة لا بأس فيها بالتشبُّع القيمي والالتزام الحرفي فيها.

مرحلة الفتوة

المراحل العمرية

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم يكبر الإنسان قليلا، يزداد تعلُّمه من الحياة، وينهي مراحل تعليمه ويدخل إلى سوق العمل والتطلعات من رغبة في الزواج وتعامل مع العمل والعلاقات الاجتماعية في محيط العائلة والعمل والأصدقاء، وتعرِفُ المجاملات والتفاهمات والحياد إلى عقله وقلبه سبيلا، وربما جلس يفكر كيف يمكنني أن أدخر وأعيش من مرتبي الذي بالكاد يكفي معيشتي وأنا فرد غير مسؤول عن زوجة وأولاد؟

وتدخل مبادئه الصارمة في المرحلة السابقة مصنع الحياة فتتعدل قليلا، فبعد أن كان يذهب إلى صديقه في الميعاد المتفق عليه بالضبط أصبح يتأخر، وبعد أن كان يكره معلِّمَه الذي كان لا يتقن مادته العلمية ولا يجيب المعلِّمُ عن أسئلة طلابِه النابهين بحجة أنها ليست في المقرر،

وكنتَ تتهمه دائما بالمعلم المهمل الكسول غير المخلص الذي يؤدي عمله بأقل مجهود بدأت تنظر إليه –بعد أن كنت تكرهه وتحكم عليه بأقسى الأحكام– بإشفاق، إنه ربُّ أسرة يعمل في المدرسة ثم يخرج سريعا ليقود تاكسي أو يعمل في حرفة أو ورشة ليوفر معيشة جيدة لأبنائه،

إنه لا يذهب بعد المدرسة إلى المنزل فيقضي وقته في القراءة والاطلاع ليجيب أسئلتك أيها الطالب النابه، ولا يملك حتى رفاهية قراءة شيء في تخصصه أو غير تخصصه.

أرض الواقع

تتذكر ذلك وأنت في مرحلتك الواقعية، ثم تبتسم، أنت أيضا أصبحت تفعل ذلك، تؤدي عملك على أقل قدر ممكن، وأصبحت تجامل دون أن تسميه نفاقا، وتتحدث إلى زميلات العمل دون أن تسميها معاكسة، وتتأخر في مواعيدك طالما لديك عذر، وأصبحت ترى الحياة بيضاء ورمادية وحمراء وخضراء وسوداء وزرقاء وبألوان متنوعة.

وأصبحت تقدر الظروف وتقرأ الأحداث والوقائع في ضوء الملابسات والسياقات المحيطة بها، وقد تعذر شخصا مقصرا في عمله، وتبرر تقصيرك.

وأصبحت تدرك أن القيم والأخلاق ممارستها الصادقة لا تتوقف فقط على الإيمان بها، ولا على عدد قليل من الأفراد في المجتمع، بل تحتاج إلى بناء كلي ومنهج تعليمي وحياتي يتغلغل في حياة الشعوب والأمم حتى تتحول إلى فعل حقيقي على أرض الواقع. وتنظر إلى شدتك الماضية أيام المراهقة وتضحك بحزن.

اقرأ أيضاً:

 رسالة إلى الشباب المفكر

في هذا الطريق ملايين

ما هو التصوف الحقيقي؟

مرحلة الكهولة

ثم يتقدم بك العمر، وتدخل مرحلة أخرى من حياتك تبدأ هذه المرحلة بآلام المعدة وتركِكَ لأنواع معينة من الطعام، والقلق من ضغط الدم ونسبة السكر في الدم، وتنهج بقوة من طلوع الدور الثاني، ولا تقدر على لعب أكثر من خمس دقائق في ملعب خماسي لكرة القدم.

ثم تتنهد، أين يتسرب مني الشباب والقوة والفتوة؟ تبذل أقصى ما لديك من أجل زوجتك وأولادك، وتتقبل –رغما عنك– انطفاء الشعلة المتقدة داخلك شيئا فشيئا، وإذا كنت لم تفكر في هذه الأمور فلا تقلق، هذه علامة أنك وصلت إلى هذه المرحلة لدرجة أنك لا تجد وقتا للتفكير إلا في جهاز ابنتك التي أصبحت على “وش جواز” ربنا يرزقها بابن الحلال، وابنك الذي دخل ليؤدي الخدمة العسكرية.

مرحلة الزهد في الدنيا

المراحل العمريةتبدأ –عزيزي القارئ– في التخلي، إنها مرحلة الزهد سواء كنت مريدا أو مكرها، فأنت تتخلى عن كثير من الأمور الحياتية التي تستهلك اهتمام الشباب، تقل رغبة في إثبات الذات أو التعارك، وترغب في السلامة ولو تنازلت، وتهتم باستغلال فرص الحياة لتطمئن على أولادك ويكون محور كل ما تفعله هو أولادك وتنسى نفسك تماما، لتصل إلى  هدفك في الحياة، تزويج الأبناء،

والحفاظ على ما تبقى من صحتك لتظل تسير على قدمك ولا “تتحوج” إلى أحد، وتتعاظم لديك الروح وأحاسيسها على الجسد ومطالبه، ثم تصل إلى محطة الانتظار لتكون كل شواغلك حسن الختام، والصلاة في المسجد وقراءة القرآن رجاء أن يغفر لك الله ما تعلمه وما يعلمه مما لا تعلمه.

بين مرحلة الشباب ومرحلة الشيخوخة

هذا أنت وأنا والكثيرون، أنت في ذهنك تحتلف تماما أو كثيرا عنك في حياتك، أنت الشاب الصارم الأخلاقي المثالي الواضح المستقيم وإن خالفت القطيع، غيرك الناضج المجامل المنجرِف المتأقلم مع سوق العمل والحياة الاجتماعية المتماشي مع القطيع حتى وإن سار في الطريق الخطأ،

وهذا وذاك يا عزيزي غيرك وأنت كمصباح ما زال يعمل لكنه من كثرة ما أضاء خفت ضوؤه، لا هو منكسر فنرميه ونستبدله، ولا هو قادر على إضاءة الغرفة، إنه زاهد لدرجة أنه يزهد في أن ينكسر ويزهد في مغادرة مكانه.

لكنني توقفت أمام هذه المراحل، وتساءلت: كيف ينتهي بنا المطاف من هذا الحماس الجارف للالتزام إلى عدم الاهتمام التام؟ لمَ لا يكون هناك رابط يوازن هذه المراحل؟

لمَ لم يعلمنا أحد أن المثالية يجب أن تكون واعية تقدر المواقف وتقرأ ما خلف الأخطاء الصغيرة، وأن العقلانية لا تعني التخلي عن المثالية وأنها لا يمكنها أن تتهادن مع الأخطاء الفادحة الكبيرة، وأن الزهد لا يعني أبدا الاستهانة برغبات الشباب وعدم تقديرها أو نصح الشباب بأنها أشياء مزيفة؟

لا، إن رغبات الشباب ومثاليتهم ليست مزيفة، بل هي مرحلة، وزهد الشيوخ ليس تعقلا بل هي مرحلة.

لا إفراط ولا تفريط

وفي النهاية، وأنت مثالي ملتزم جاد واضح لا تنس أن الحياة لها ظروف محيطة، ولا تجعل الأمور الصغيرة حكمها حكم الكبيرة فليس عليك أن تكون غبيا.

وأنت عقلاني ليس عليك أن تكون منافقا جشعا لأن السوق يطلب ذلك، لأن التفريط في القيم الأساسية حمق وغباء ولا يحتمل التوازنات.

وأنت زاهد ودعت المادة تمتَّع بمرحلة الرقي الروحي دون أن تمنع الآخرين من السلوك في الطريق، لأنك لو لم تبدأ مثلهم لما وصلت.

كونوا متحابين.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمد السيد قياسة

مدرس اللغويات – كلية اللغة العربية بالمنصورة – جامعة الأزهر