نهضة مصر
بالأمس القريب كنت في زيارة إلى القاهرة لبعض شأني، وإبان مروري من أمام جامعة القاهرة وعلى الطريق المواجه لها، يربض تمثال نهضة مصر، شامخا أبيا، على يمينه حديقة الحيوان، وعلى يساره حديقة الأورمان، وخلفه قبة الجامعة، وأمامه كوبري الجامعة، في موقع يبدو أنه قد اختير بعناية فائقة عام 1955.
وبمجرد أن وقعت عيني عليه انتابني شعور بالحنين، وأصابتني قشعريرة سرت بين أوصال جسدي، ووجدتني فجأة وقد أوقفت محرك سيارتي، ونزلت منها أستنشق عبير المكان، وأتأمل عظمة الزمان، وأشاهد روعة الفن، أخذت نفسا عميقا، امتلأ صدري منه، دققت النظر فيه مرات ومرات، فتملكني شعور بالفخار والزهو.
الفنان محمود مختار
محمود مختار، ذلكم الفنان العظيم، الذي صنع هذا العمل، بعد استكتاب عام للشعب عام 1928، وقد آثر محمود مختار أن يُسخّر فنه في خدمة العمل الوطني، فكان هذا الأثر الفني الخالد، والذي أعتقد أنه سيكون من عجائب الدنيا بعد مئة عام،
وتذكرت حينئذ كيف أن مختار اتجه للعمل الوطني بدلا من التزلف إلى الساسة وأشباه الرجال، الذين لوثوا الحياة وملؤوها صخبا وفسادا وقذارة… أشياء كثيرة توالت على ذهني وأنا أنظر بإعزاز وإكبار لهذا الأثر، مرت الدقائق والوقت سريعا، وأنا لا زلت واقفا أتأمل عظمة الفن وعبقرية مختار.
صورة تذكارية بجانب تمثال النهضة
وقبل أن أقفل راجعا وأقود سيارتي لأستكمل رحلتي أردت أن ألتقط صورة تذكارية بجانب التمثال، وقد كان الوقت صحوا، والساعة تقترب من العاشرة صباحا، والسماء صافية، وها هي الشمس وقد خففت من برد يناير،
فغدا الجو أسطوريا حالما، خصوصا وأنا واقف بين حديقتين، الأورمان يسارا، حيث تجمع العشاق ومناجاة القلوب والأشواق، وحديقة الحيوان، حيث تجمع العائلات وفرحة الأطفال والمسرات.
ويبدو أن همس المحبين قد سرى إلي فزادني من السعادة والنشوة، ما أضيف إلى نشوتي بالجو وسعادتي بالتمثال، مع سعادة لا توصف وأنا أجد هذا الطفل الغرير، وهو يمسك بأبيه، ويقول له: “يا أبي أريد أن أرى الغزال، هيا ندخل الحديقة!”،
فضحكت في نفسي، وكاد ينطلق لساني بالقول: “يا بني إن الظباء ليست في حديقة الحيوان، إنما هي في حديقة الأورمان!”، فصمت مخافة أن يتهمني أحد بالجنون.
يأس الشباب العربي
المهم أردت أن ألتقط صورة مع التمثال الأسطورة، فناديت على أحد المارة، وكان يبدو عليه سيما الحزن وعلامات الوجع، فأحببت أن أخفف عنه بعض ما هو فيه، فقلت: “يا.. يا كابتن.. يا كابتن.. يا أستاذ.. لو سمحت، من فضلك، من فضلك”،
فأقبل علي متثاقلا، متململا، لا يكاد يجر رجليه من الكسل، فنظر إلي غير مبال، فقلت له: “من فضلك، ممكن تصورني، صورني صورة حلوة كده، حلوة زيك!”، لكنه لم ينبس ببنت شفة، ولم يبدِ أي شيء، ولم يتأثر بكلامي، ولم يكترث للفظي.
لكنني إزاء هذه الحالة التي هو عليها، وجدتني مضطرا من باب الفضول ومن منطلق الإنسانية والأخوة أن أقول له: “ما لك؟ ما بك؟ يا عم اضحك، اضحك الصورة تطلع حلوة”، لكنه ظل صامتا لا يتكلم، فقلت له: “ما الذي أغضبك؟ هوه فيه حاجة معينة مزعلاك؟!”، فإذا به بلسان الحال والمقال، يقول لي: “هوه في حاجة مزعلاني؟! حاجة!”.
هكذا جملة واحدة فقط قالها، جملة واحدة لخصت كل شيء، نعم كل شيء، جملة تحمل نبرة الاستهزاء والسخرية من كل شيء، تحمل فقدان الأمل، وثقل الألم، وغياب الطموح، ووأد الحلم، وانعدام الثقة، وضياع الهدف، واشتشراء اللا مبالاة، جملة واحدة أفحمتني في الرد، فلم أحر جوابا، وسكت، وران علي طائف من الهم، وسحابة من عدم الاتزان.
رحيل الشاب
أخذ هاتفي، ثم التقط الصورة، التي يبدو أنها لم تلتقط، حيث يبدو أن أصابعه القلقة لم تستطع مجرد لمس شاشة الهاتف الذكي، من فرط لا مبالاته واضطرابه، وارتعاش جسمه وضعف أعصابه، أخذت منه الهاتف، فأعطاني إياه في لا مبالاة شديدة،
فنظرت منه عن كثب، فرأيت وكأن بؤس العالم ينطلق منه، وكأن حزن السنين يصب فيه، انطلق من أمامي، وكأني رأيت بركانا من الألم يقطع نياط قلبي، مرَّ من أمامي، وهو يهيم على وجهه، ربما لا يدري هو نفسه أين سيذهب، وربما حينما خرج من منزله لم يكن يعرف وجهته الحقيقية، ربما لا يعلم له طريقا مرسوما، أو هدفا موسوما.
تذكرت حينئذ أن كوبري الجامعة على بعد خطوات، يا الله! لقد كان ينبغي أن أتبعه، نعم، كان يجب علي السير خلفه، لقد حزنت كثيرا أنني لم أذهب خلفه، ربما لأنني إنسان عاطفي، سريع التأثر، قريب العبرات، وها أنذا بمجرد جملة واحدة رأيتني وقد سقيت الويل كؤوسا، وسكرت من خمر الأسى، وقداح الهم، وأنات الأوجاع حتى الثمالة!
انتحار الشاب
رفعت رأسي فوجدتني لا زلت أمام تمثال نهضة مصر، وإذا بي أقول لمختار: “عذرا أيها الفنان الجميل، عذرا! لن تكون ثمة نهضة حقيقية لمصر وشبابها في حزنهم يرفلون، وعلى وجوههم يهيمون، وعلى المقاهي يتمايلون، ولغدهم يفتقدون، ولأملهم…”.
وفجأة وجدت هرجا ومرجا، وصراخا وعويلا، وندبا وأنينا ناحية كوبري الجامعة، وإذا بسيدة تلطم وجهها، وتقول: “يا حرام! حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ليه يعمل في نفسه كده؟! دا لسه شاب صغير والدنيا قدامه، ليه ينتحر؟!”،
سمعتها تقول ذلك، فتسمرت في مكاني، وفقدت توازني، فوقعت على الأرض، ثم قلت بصوت مسموع: “لقد فعلها! لقد فعلها! لقد فعلها! حسبي الله ونعم الوكيل!”.
ثم نظرت إلى التمثال الرابض، وعيناي تذرف بالدموع، والألم يعتصر قلبي، والأنين يخترق صدري، قائلا له: “عن أية نهضة تتحدثون، وشبابنا على الكباري ينتحرون، وفي مياه النيل يموتون؟! نعم ينتحرون، ويموتون!”.
اقرأ أيضاً:
الأولويات التي تحول دون سقوط الفرد والمجتمع
اترك اليأس وأبدأ الحياة من جديد
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
**************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا