مقالات

السياسة والرقص بالكلمات!

منذ أن أدرك الإنسان حقيقة كونه فردًا في جماعة، تتلاقى مصالحه –وتصطدم أحيانًا– مع مصالح الجماعة التي تحتويه، وتتلاقى مصالح جماعته –وتصطدم أحيانًا– مع مصالح الجماعات الأخرى من بني نوعه، أصبحت السياسة جزءًا لا يتجزأ من ممارساته اليومية،

تمامًا كالطعام، والشراب، والتكاثر، ومواجهة الطبيعة بأقوى أسلحة البشر: العقل ومنهج المحاولة والخطأ، دفعًا لمسيرة التطور والارتقاء الحضاري. وبعبارة أخرى، أصبحت السياسة واحدة من أهم غرائز النزوع الإنساني نحو البقاء والهيمنة.

والبقاء –بالمعنى السياسي المتواتر عبر مراحل التاريخ المختلفة– هو بقاء الأقوى، القادر على استثمار طاقاته وإمكاناته وتكييفها بما يتوافق ومعطيات واقعه داخليًا وخارجيًا، ومن ثم توظيف كافة مناشط الحياة في حلبة صراع المصالح المتضاربة.

الفساد السياسي

واستجابة للفوارق الاستعدادية والاختلافات الطبيعية بين أفراد مجتمعه، لجأ الإنسان –دون إتقان– إلى لعبة توزيع الأدوار، فأسند (مُكرهًا أو بإرادته) مهام إدارة شؤون المجتمع وسنّ القوانين وإصدار القرارات إلى فئة بعينها من أبنائه تجيد الرقص بالكلمات (الساسة)،

بل ومنح هذه الفئة (مُكرهًا أو بإرادته) القوة اللازمة لتنفيذ سياساتها وإحكام سيطرتها، وحيثما اجتمعت السلطة والقوة، كان الفساد ثالثهما، إلا من رحم ربي “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (الأنعام: 116)!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وحين تفسد السياسة، يفسد المجتمع بأسره، وتخضع كافة مظاهر حضارته (من العلم، إلى الفن، إلى الدين، إلى الرياضة، إلخ) لسلطة من هم في الغالب لا يفقهون.

العلم والسياسة

ترويض الساسةوكأني أسمع صدى صرخة العلم حين امتدت إليه الأيدي الخشنة للساسة لتخرجه من فراديس الحق والخير والجمال إلى بشاعة عالم مهده الشيطان بحطام من القيم، وبالتحديد حين ألقيت أول قنبلة ذرية على هيروشيما.

يومها أعلن الفيزيائي الأمريكي «جاكوب روبرت أوبنهايمر» أن العلم قد فقد عذريته، ولم يعد لنا أن نتخيله تلك العذراء الطاهرة الحنون!

لكن عالم الكيمياء الحيوية النمساوي «إروين شـارجاف» ذهب إلى أبعد من ذلك، رأى أن العلم قد فقد عذريته مع بدء مشروع مانهاتن، أول معسكر اعتقال علمي جُمع فيه أكثر العلماء عبقرية، من كيميائيين وفيزيائيين، تحت حراسة مشددة، وقيل لهم: هيا العبوا واقتلوا.

كانوا يعرفون جميعًا أنهم سيقومون بأكبر اكتشاف شيطاني: تفجير الذرة، وأن هذا الاكتشاف سيستخدم في أكبر مذبحة في تاريخ البشرية. فإذا كان هذا حالنا حين نفد السياسيون بالعلم إلى باطن الذرة وامتلكوا نواحي طاقتها المدمرة، فما بالنا إذا تحَكّموا في طاقة نواة الخلية الحية؟

إن هذه الأخيرة لا تشبه طاقة نواة الذرة، فلا أحد يفنى منها، لكن تفجير نواة الخلية يعني انفجار ضمير الإنسان، وإعلائه من شأن وحشية التفكير والغرور، فالأخلاقيات –كما نعلم– كانت دائمًا كالمطاط: خير ما يمكن أن يلائم نفسه مع الظروف!

اقرأ أيضاً:

السياسة والرياضة

سلسلة شرح الفلسفة السياسية

الروهينجا ورسالة الفن!

السياسة والفن

إنها أزمة التنافر بين القوة التي أطلقها العلماء من عنانها، والضعف أو القلق أو التناقض فيمن يوجهون أو يرشدون إلى استخدام هذه القوة.

وكأني أيضًا أسمع صرخات الفن المتتالية، بل وأرى جروحه النازفة الناجمة عن نهشات الساسة المتكررة، أولئك الذين أبوا إلا أن يخرجوه من واحة التذوق والتأمل والسمو الروحي إلى براثن الأيديولوجيات العبثية والسياسات الغثة، ليتغنى قسرًا بأمجادٍ زائفة، ويعبث بعقول وقلوب أرهقتها وعود الساسة، وأنهكتها رحلات السعي نحو سراب مجتمع الوفرة والرفاهية.

السياسة والدين

وحتى الأديان السماوية –رغم قدسية نصوصها– لم تسلم من تأويلات الساسة المرحلية، ولم تسلم طوائفها المتكاثرة من توظيفات ذات أبعاد سياسية! ولا نُغالي إن قلنا إنها كانت وما زالت محور الصراع السياسي اللا منتهي بين البشر: محليًا ودوليًا.

السياسة والرياضة

ترويض الساسةأما الرياضة، وهي النشاط الإنساني الهادف إلى امتصاص نوازع العدوانية والهيمنة، وإنهاء حالات الصراع على المستويين الفردي والجماعي، فقد لوثتها دومًا أهداف الساسة وردود الأفعال تجاهها،

بداية من الدورات الأوليمبية التي أقيمت وتوقفت وأعيدت بقرار سياسي، ومرورًا بالمسابقات الدولية التي عانت كثيرًا من الانقطاعات والانسحابات والاعتداءات، ووصولاً إلى المسابقات المحلية واستغلالها كأفيون لإلهاء الشعوب وتغييب وعيها السياسي.

حقًا إن لكل من العلم والفن والدين قوى تمردية تستنفر الهمم الثورية من حين إلى آخر، إلا أن قواها سرعان ما تنسحق تحت وطأة أقدام الساسة الثقيلة وخطواتهم المحسوبة واللا محسوبة.

ترويض الساسة

هذا على مستوى الرؤى السياسية وآليات تنفيذها وفقًا لقواعد الصراع من أجل البقاء والتفوق والهيمنة، أما على مستوى المناصب ذاتها وطموحات شاغليها، فالأمر أشد خطورة، لا سيما في المجتمعات التي تفتقر إلى الوعي السياسي، إذ غالبًا ما يُصاب صاحب المنصب –أيًا كانت درجته– بما يُعرف سيكولوجيُا بالتوحد بالسلطة، فيعمد إلى الحفاظ عليها بشتى الوسائل!

ما السبيل إذن؟ قد لا تُفلح الدعوة إلى عالمٍ يخلو من الساسة، مثلما فعل الكاتب الإسرائيلي المناهض للصهيونية «عكيفا أور» Akive Orr، في كتابه: «سياسة بدون سياسيين» Politics Without Politicians (2005)، فتلك يوتوبيا تستعصي على التحقيق.

وليس من المنطقي أن ندعو كذلك إلى الأناركية (اللا سلطوية) Anarchism، إذ من غير المعقول أن نُعد الدولة –كمؤسسة في حد ذاتها– مصدر كل شر أو قهر، وسبب استغلال الإنسان وإفساده وتشويهه، وقد كابدت اللا سلطوية الشيوعية فشلا ذريعًا في الماضي القريب. وحيث أنه من العبث الظن –في المقابل– بأننا يمكن أن تحكمنا الملائكة.

فما من سبيل أمامنا إذن إلا العمل على ترويض الساسة، أولئك الذين نمنحهم بأيدينا سُلطة التحكم فينا، بسُلطة أقوى هي سُلطة القانون، وقوة أشد هي قوة المراقبة!

قد يكون الأمر صعبًا، وربما بدا مستحيلًا، لكنه لا يخلو من إمكانٍ منطقي، مقدماته وعي الأفراد والشعوب بمغزى حياتهم، ورغبتهم الصادقة في مستقبل أفضل، فلئن وُجدت هذه المقدمات، أمكننا وقتئذٍ أن نناقش النتائج وآليات تفعيلها!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية