سمير نوح .. في الذكري الثالثة لرحيله!
من الصعب أن تجد شجرة مُثمرة وارفة الظلال في الصحراء الجرداء، لكنك إن وجدتها تتجلى أمامك ملامح الحياة المفتقدة في الرمال الجافة الممتدة من حولك، وشأن الحاج الذي أنهكه عناء السفر ومشقة الارتحال، سرعان ما تخطو إليها ملتمسًا أمان ملاذها وطيب ثمراتها ونسمات ظلالها.
حينئذ ترنو بناظريك إلى السماء، سائلًا من سوى وأبدع الأكوان، أن تتباطأ بك آنات الزمان، وأن تتسع بك أبعاد المكان، كي تحمل مزيدًا من زاد الطريق، في رحلة تحسبها بلا عنوان.
تلك هي رحلة العقل في عالم تعلو فيه وتتضخم قامات الجهالة والتخلف، لتحجب بزيف استطالتها وعبث تضخمها قامات أخرى حقيقية، أبت إلا أن تُبدع في صمت، بعيدًا عن صخب الحياة الثقافية الماجنة، وكثرة الثمار الفكرية الزائفة.
هي قامات لا ينضب عطاؤها بإنكار الجاحدين، ولا يزيد من قدرها ما قد تخطه عنها أقلام المريدين، تحمل فوق أكتافها هموم وطن غشيته سكينة التغني بأمجاد الأسلاف، فراح في سُبات عميق، لا تسمع منه إلا أنينًا خافتًا، تارة بفعل دهسات ركب الحضارة المنطلق من فوقه بقوة، وتارة أخرى بفعل قسوة تشويهات العابثين وتعملق الأقزام من أبنائه.
الوظائف التي شغلها سمير نوح
من بين هذه القامات نلمح أحد أعلام مصر في الخارج، وأحد طيورها التي عزفت في هدوءٍ أروع سيمفونيات الفكر بعيدًا عن حدود الوطن، إنه الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم نوح، ابن محافظة الشرقية بمصر (من مواليد سنة 1946)،
والذي عمل أستاذًا للغات الشرقية وآدابها بجامعة دوشيشا اليابانية Doshisha University، ونائبًا لمدير مركز دراسات الأديان التوحيدية CISMOR باليابان، ثم أستاذًا زائرًا في جامعة تاكوشوكو Takushoku University حتى وافته المنية في الثلاثين من أبريل سنة 2019.
حياته الفكرية
تعكس حياته الفكرية، وتنقلاته بين الجامعات العربية واليابانية المختلفة، ثراءً بحثيًا تعجز عن احتوائه بضع صفحات، وتحمل كتاباته من أسرار اللغة رموزًا تبوح بكثرة من الدلالات.
يعمق في نفسي الوجود، فألتقيه في درب التأمل حكيمًا، ينسج خيوط البحث بذات ما يؤرقني من أطروحات وتساؤلات، وينفذ عقلي عبر صمت الواقع، فأرى فكره ينبض بالحياة في عالم كنت أظنه قد مات!
التقيته للمرة الأولى في أبريل من سنة 2007، حيث كان مشاركًا في مؤتمر دولي عن الدراسات الأدبية واللغوية المقارنة في رحاب جامعة القاهرة. وقتئذٍ أحسست أنني بإزاء مخاطرة عقلية من أكبر المخاطرات استثارة في حياتي، فلم أزل على تواصلٍ فكري معه حتى التقيته للمرة الثانية أثناء زيارتي لليابان في نوفمبر من سنة 2011،
على خلفية دعوة تلقيتها لإلقاء محاضرة عن العلم في الإسلام بمركز دراسات الأديان التوحيدية بجامعة دوشيشا (وهي تجربة فكرية وحياتية فريدة أخصص لها مقالًا مستقلًا)، لتتوالى بعدها لقاءاتنا بشكلٍ دوري.
المجتمع الياباني
كان أكثر ما أدهشني في المجتمع الياباني هو ذلك السلوك المفعم بالمبادئ والأخلاق الإسلامية الأصيلة، لأناسٍ غير مسلمين: علم، نظام، أدب، وفاء، انتماء، واحترام لحقوق الآخر وتقدير لحريته، والأكثر من ذلك رُقي التعامل مع الطبيعة والحوار الدائم معها دون استسلام لكوارثها وتقلباتها، فالياباني يسأل والطبيعة تجيب، بل وتبوح بأسرارها.
قادتني الدهشة مرغمًا إلى مقولة الإمام محمد عبده: «لقد وجدت في الغرب إسلامًا بغير مسلمين، ووجدت في وطني مسلمين بغير إسلام»، وظل صدى المقولة يتردد عاصفًا بذهني لأيام، حتى توجهت إليه بتساؤلاتي: أليس هذا إسلامًا حقيقيًا، لِم هُم إذن غير مسلمين؟ ألا تنقصهم فقط العقيدة؟ ولِم شوهنا نحن العقيدة التي حبانا الله بها فتنازعنا وتخلفنا؟
وسرعان ما جاءتني إجابته الفاصلة: «الدين في اليابان ثقافة حياة، وهي ثقافة تمتص ما يناسبها مما لدى الآخرين من أديان وعقائد وثقافات، تتفاعل معها بقوة الحفاظ على الهوية، لتعكس في النهاية ما تراه من سلوكيات».
اقرأ أيضاً:
ويليم أوسلر Sir William Osler أبو الطب الحديث
فضائل اليونان القديمة على الإنسانية المعاصرة
كتابه “فهم الإسلام في اليابان بين الماضي والحاضر”
قلت زدني، فأهداني من بين كثرة من كتبه كتابه «فهم الإسلام في اليابان بين الماضي والحاضر»، الصادر باللغة العربية عن مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض سنة 2010، ثم آخر كتبه «50 سؤالًا عن اليابان: بين طيات الكيمونو وأقنعة النينجا».
يتألف الكتاب الأول من مقدمة ومدخل وستة فصول، تتناول في مجملها طبيعة فهم اليابانيين للأديان بصفة عامة، وللدين الإسلامي بصفة خاصة، وفعاليات العلاقات العربية الإسلامية اليابانية منذ بدايتها وحتى وقتنا الراهن في معية المتغيرات الدولية المؤثرة،
وطبيعة حياة المسلمين في اليابان: قضاياهم ومشكلاتهم وطموحاتهم، بالإضافة إلى أنشطة الجامعات اليابانية ومراكز البحوث والأكاديميين اليابانيين في مجال التعريف بالإسلام وبثقافته وحضارته.
وتكمن أهمية الكتاب في كونه يمثل مصدرًا ثريًا للقارئ العربي المهتم بالشأن الياباني مقارنة بالوضع الحضاري للعالم العربي – الإسلامي، بالإضافة إلى ما يحمله بين جنباته من إجابات لتساؤلات تؤرق بالضرورة كل من سمع أو عايش أو قرأ عن التجربة اليابانية.
مقالاته الموجزة عن الحضارة اليابانية
أما الثاني فيحوي خمسين مقالًا مختلفًا وموجزًا جاءت ردًا على أسئلة طالما طرحها العرب عن الحضارة اليابانية قديمًا وحديثًا، من العادات والتقاليد الموروثة إلى المهرجانات الفنية والطقوس الدينية، ومن الأطعمة والملابس إلى الثقافة العامة ومكانة المرأة وتاريخ الجالية الإسلامية، ومن المُدن وثقافاتها النوعية إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية.
والجميل والمُمتع في هذا الكتاب أنه يعكس تجربة المؤلف الشخصية، وملاحظاته التي دونها في دفاتره بأسلوب سردي بسيط وسلس، منذ انتقاله إلى الحياة في اليابان سنة 1982 وحتى نشر الكتاب سنة 2016، ما يجعله دليلًا هامًا للقارئ العربي عن اليابان أو للزائر لها.
لقاء خاص أخير مع الراحل سمير نوح
قبل موته بشهور، كان سمير نوح يعاند المرض بثبات وسخرية وكأنه يخوض معركة جدله الأخير مع الحياة، وكان يقهر الألم بابتسامة، وكأنه يقول للسرطان افعل ما شئت بجسدي النحيل، فلن أحرم الآخرين بهجة لقاء نتبادل انتظاره بشوق لا تُبدده ساعات الرؤيا التي تفر كلحظات عابرة،
في لقائنا الأخير بالقاهرة أواخر سنة 2018، شعرت بأنه ينتظر شيئًا مجهولًا، ويُعد لرحلة طويلة قد لا يعود منها جسدًا، وإن عاد واستقر في القلب والعقل روحًا وفكرًا وصورة!
أصَّر على أن يكون اللقاء فرديًا حياتيًا، بعيدًا عن صخب المؤتمرات والندوات التي جمعتنا كثيرًا، نصف يوم أو يزيد قضيناها نمشي ونجلس بمحاذاة كورنيش النيل، تسبق كلماته خطواته، وتستوقفه الكلمات والضحكات أحيانًا متكئًا على ذراعي حين تلوح له فكرة أو ذكرى أو نصيحة،
استعادة للذكريات
ذكرني بحوارات جمعتنا مشيًا على ضفاف نهر كامو في كيوتو، وبمعانقة الأزهار وأوراق الأشجار للماء الجاري وكأنها تقول له: مهلًا! جريانك إلى أين؟ وماذا يحمل معه من أدق تفاصيل حياتنا المنطلقة بلا توقف؟!
كنت أريد أن أستمع له فقط، فحديثه يحمل التساؤلات والإجابات التي ما فتئت تؤرقني، حدثني عن بعض تفاصيل رحلته الحياتية والأكاديمية، من مصر إلى باكستان أو السعودية، وحتى محطة التوقف الأخيرة في اليابان، عن أصدقاء وزملاء وأقارب عبروا به أو عبر هو بهم،
عن رحلة مرضه ورضوخه لأطباء يعبثون بجسده هناك وهنا، عن روحه التواقة لحبٍ أفقدته صدمات الواقع بعض روعته، وعن الوجه الآخر لليابان، ذلك الوجه القابع خلف وهم الحضارة، وسراب الانبهار بالكوكب البعيد عن عالمنا العربي، حدثني وحدثني ثم قال: للحديث بقية!
رحيل سمير نوح
وفي نهاية أبريل من سنة 2019، رحل سمير نوح في هدوء، رحل ككل الأرواح والنفوس النقية الرائعة في وطني، ككل الأشياء الجميلة والحزينة في وطني، ككل موجود تمن به الحياة علينا ثم يأبى الموت إلا أن يحول بيننا وبينه!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا