مقالات

مالك بن نبي والكهرومغناطيسية والتحرش

مالك بن نبي والكهرومغناطيسية والتحرش

يعرض المفكّر الجزائري الراحل مالك بن نبي رؤية تحليلية في كتابه الأبرز: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لأسباب التناقض الواضح بين الأفعال والأقوال والقيم في مجتمعاتنا. هناك أفكار ابتدائية تشكّل نواة أيّ حضارة وتحوّل مجتمعا استهلاكيا متفككا لمجتمع مترابط تقدّمي صانع للحضارة، هو يسمّيها الأفكار المطبوعة. وهي تنطبع في وجدان المجتمع عن طريق الإصرار والثبات الملحمي، في وجود مقاومة شرسة وقيادة بارعة. يترتّب على وجود هذه الأفكار المطبوعة لفترة وضع أعراف وتشريعات تحافظ على تماسك هذا المجتمع، سواءً على مستوى الأشخاص والجماعات المنضوية تحت قيادته، أو مستوى تماسك وترابط البناء الفكري-التطبيقي الذي تمثّله هذه الحضارة. طريقة إدارة المجتمع وأعرافُه هذه يسميّها الكاتب الأفكار الموضوعة، لأنها تجسّد الأفكار الأولية، وهي -الموضوعة- تتطوّر مع الزمن وتتفاعل مع البيئة والثقافة المحيطة.

تحدث لأي نسق حضاري حالة تحلّل عندما تبتعد المسافة بين أفكاره المطبوعة وأفكاره الموضوعة، نتيجة لتقهقر أولوية الأفكار في جدلية[1] الأفكار-الأشخاص-الأشياء، وصولا إلى الوضع الذي تكون فيه الأفكار في المرتبة الأدنى. عندها تكون الأفكار الموضوعة منفصلة بشكل شبه تام عن المعنى والفاعلية، فتصبح ميّتة. والأفكار الميّتة الخاصة بحضارة ما يتأقلم ضررها مع بيئتها الأصلية، بينما تكون سامة مميتة عندما تفعّل في حضارة غير تلك التي أنتجتها.

——-

أي جسم موضوع في محيط ما تؤثّر عليه عوامل داخلية وخارجية، العوامل الخارجية قد تكون مباشرة خاصة بهذا الجسم تحديدا أو تكون خاصة بالمحيط الذي هو فيه، وعليه فإنه بدراسة هذه الأنواع الثلاثة من العوامل يمكن حساب دافعية هذا الجسم في أي لحظة من اللحظات: الجسم نفسه، الأجسام ذات التأثير المتبادل معه، المجال.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

——

 يرى مالك بن نبي ان  عوامل الضبط وإرساء النظام في أيّ مجتمع  تنحصر في عوامل داخلية وخارجية. تنقسم الدوافع المحرّكة للإنسان حصرًا إلى شهوية وغضبية وعقلية، وهي القوى العاملة في النفس . وسمّيت العقول بالنهى لكونها تنهى عن قبيح الفعل. وقد عمدت الحضارة المادّية لتوظيف هذا العقل، بدلا من تحكيمه، لخدمة وإشباع القوتين الأخريين، الغضبية: تطوير قوة القمع والبطش، والشهوية: تطوير وسائل الترفيه والاستمتاع. وقد بنت هذه الحضارة في بيئتها الأصلية أعرافا ونظاما انتظمت به الشعوب الحاضنة لهذه الحضارة، بنتها على احترام حقوق الآخر -المقررة في القانون- واحترام النظام وتعظيم قيمة العمل، لكنها بنتها أيضا على سلب ثروات الشعوب الأضعف واستغلالها خاصة في المرحلة الاستعمارية، ومرّت خلال العديد من الملاحم حتى وصلت لدرجة التمدّن التي يحسدها عليها سكان ما يسمى بالعالم الثالث.

أما الدول المتخلّفة، وخاصّة العربية، التي ما زالت في مرحلة الاستهلاك ولم تنتقل بعد لمرحلة الإنتاج الحضاري فقد تحوّلت بفضل استيراد كل شيء من الدول الرائدة حاليا إلى مسوخ، تحتفظ بمظهر ثقافي فلكلوري كان يميّز حضارتها في السابق، دون أن يكون أكثر من مجرّد أداة لتمرير حركة انتقال المنتجات الفكرية والنظم والسلع من الغرب مع تفادي استثارة الشعور بالخطر نتيجة للمحو المُمنهج للهوية الأصلية لهذه الشعوب، لا لوجود المؤامرة الكونية على الفكرة الإسلامية تحديدًا، ولكن لأن العولمة والاقتصاد الحر يعملان على إزالة الهوية كعائق أمام تدجين الشعوب وخلق أسواق جديدة نهِمة لسلعها.

وفي ظل غياب القوة العقلية للمجتمع المتخلّف على مستوى الضمير والبصيرة وعلى مستوى احترام النظام، فمن المقبول اعتبار أفراد هذه المجتمعات كائنات غير عاقلة تنطبق عليها قوانين الفيزياء للجمادات، إلا من خالف ذلك النمط العام.

إذن لنأخذ فردًا ذكرًا كمثال، ينتمي إلى مجتمع مسلم المظهر، لكن تحرّكه رغبة جامحة في الأخذ من متع الدنيا قدر استطاعته فالإنسان لن يعيش سوى حياة واحدة، وهو يرى أن قانون الحياة هو قانون الغاب، القوي الماكر يأخذ ما يريد، والمغفّلون فقط هم من يفرّطون في الفرصة لانتهاز ضعف الآخرين واستغلال ميزاتهم النسبية. هو قد تم استغلاله في السابق غالبا بشكل أو بآخر ورأى آخرين يتم استغلالهم، فهل دافع المجتمع عنه أو عنهم؟ لا، لا أحد يكترث في حقيقة الأمر بما يكفي. هذه قد تكون كلّيا أو جزئيا الرؤية الكلّية لهذا الفرد.أما عن الضمير فهو يتلقّى ضربة تلو الأخرى من موجات الإعلام تجرفه نحو بحر النسيان، والكهنة يبيعون للناس صكوك الغفران!

نرى بوضوح هنا الاستهلاكية وقد نزعت من وسطها الأصلي ووضعت في وسط مفكّك، وجود المجتمع المدني فيها هامشي، فأصبحت مسمِّمة مميتة، والضابط الخارجي متمثلًا في انتشار قوات الأمن والرقابة ضعيف، بل وأحيانا ما يكون مركز قوة آخر يستغلّ في انتهاز الواقعين تحت سلطته فيكون جزءا من المشكلة!

ماذا عن “المجال”؟متطلّبات الزواج صعبة جدا مقارنة بالمجتمعات الغربية، الأفكار الموضوعة للحضارة الأصلية -الإسلامية- ضعيفة الصلة بالواقع، أعراف فارغة وجمل طنانة هي في مصاف الأفكار ميّتة. من ناحية أخرى فحدود الاختلاط مختلفة جذريا عن مثيلاتها في المجتمعات الغربية، ووسائل إشباع الاحتياجات الإنسانية العاطفية والجنسية دونما زواج خطرة، لهذا لا عجب في أن تجد الوطن العربي يحتل مراكز متقدّمة في البحث عن المحتوى الإليكتروني المشئوم وإيجاد طلب عليه، خاصة البلاد الأكثر انخفاضا في معدّل دخل الأفراد. هذا المحتوى الإليكتروني يشيّء المرأة لأقصى درجة، ويستخدم العنف والإهانة لها في ترويج سلعته. هذه هي الحضارة المادّية التي تدّعي أنها حررت المرأة. هي في الواقع استعبدتها وجعلت من مفاتنها أداة لترويج السلع المختلفة، إن الجوّ العام صار في الواقع غير رحيم بالمرأة إطلاقا، يركّز الأنظار نحوها متى كانت جذّابة طبقًا لمواصفاته التسويقية، ويصرف الأنظار عنها متى كانت غير ذلك، واضعًا ضغوطا هائلة عليها في الحالتين وموجّها إياها لتعليق الجزء الأكبر من قيمتها على ظاهرها! بقي أن نذكر قيمة الإنسان نفسه وحرمة حياته وممتلكاته في المجتمع، ومدى تكافل وترابط هذا المجتمع في السراء والضراء، الأشياء التي تضعف بشدة في المجتمعات الاستبدادية.

من وجهة نظر مالك بن نبي قد اكتملت مكوّنات معادلة الكارثة: ضابط خارجي لا يعوّل عليه، ضابط داخلي ضعيف وآخذ في الضعف، عقل كل وظيفته التبرير والتدبير، دوافع شهوية قوية متزايدة وأخرى غضبية حاضرة بالذات في المجتمعات الاستبدادية، بالإضافة لزيادة من يهتمّون بالمظهر من النساء. يتحوّل الموضوع من معاينة مجتمع بشري إلى معاينة غابة فيها من الضواري ما توحّشت طبيعته وأصبح غير ممكن الاستئناس، تنقضّ على أي فريسة سهلة، حتى لو كان غير جائع أو مستثار، فقد أصبح الافتراس فيها ذاتيًا. ومن حيوانات هذه الغابة ما قد يعرض عليه الافتراس إن استبد به الجوع نتيجة مثير داخلي أو خارجي مباشر، ومن الناحية الأخرى هناك أنواع ممن قد يقعون ضحايا للافتراس: نوع واع حريص ينأى بنفسه عن أن يكون عاملا في حدوث الافتراس الوحشي، ونوع قليل الحذر، ونوع عديم الحذر لا يتصرّف على مستوى الخطر القائم. ولا يجب النظر إلى أي عمليّة تحرّش تقع على أنّها تنتمي لنفس السياق وتسطيح الأمر في مسئولية الأنثى أو الذكر عن حدوث الفعل المشين، فلكل حالة ظروفها المختلفة. وإذا كنا جادّين في محاولة معالجة الظاهرة، فيجب أن نضعها في نصابها الصحيح، وننقذ بناءنا الحضاري المتداعي ونطرد الأفكار المميتة من وسطنا، حتى تكون لإجراءاتنا فاعلية حقيقية.


[1]  الجدلية اختصارا هي وجود شيئين أو أكثر في حالة صراع دائم حول المكانة والتأثير

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

ياسر حسام عطا

مهندس كهرباء

مترجم حر

كاتب ومصحح لغوي

باحث في مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة