الحرية
الحُريّة في اللّغة هي حسب ما جاء في معجم لِسان العرب: “كلمة الحُرّ من كلّ شيء هي: أعتَقه وأحسَنه وأصوبه، والشّيء الحُرّ: هو كلّ شيءٍ فاخرٍ، وفي الأفعال: هو الفِعل الحسَن، والأحرارُ من النّاس: أخيارُهم وأفاضِلُهم”.
تعريف الحرية
من الجدليات الشهيرة جدًا في عالم اليوم هي جدلية “مفهوم الحرية”، ووجودها وحقيقتها وحدودها وما ينبغي أن تكون عليه. وزادت أهمية هذه المسألة مع الطرح “الليبرالي” وتصاعده في العالم منذ قرون، حتى أصبحت الأطروحة الليبرالية هي التي تحكم عالم اليوم بشكل أو بآخر.
مفهوم الحرية بين اللغة والفلسفة
ويرتبط مصطلح مفهوم الحرية بمصطلحات أخرى مثل مفهوم الاختيار ومفهوم القدرة والإرادة، ويمكن تناول مفهوم الحرية على مستويين، المستوى الأول خاص بما هو كائن أو ما هو موجود في الخارج دون فعل الإنسان، أي ننظر في الكون حولنا ونجيب: هل الإنسان مخلوق حر أم مجبر؟ والمستوى الثاني خاص بما ينبغي أن يكون، أي هل يجب أن يكون الإنسان حرًا في التجمعات الإنسانية والسياسية أم لا؟
أما على مستوى ما هو كائن، فإن العقل بنفسه كما يدرك بداهةً أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل، فهو يدرك بداهةً أيضًا أعماله الاختيارية، ويزن نتائجها ويقدرها بإرادته، ثم يصدرها بقدرته. فإدراك الإنسان لأنه مختار هو إدراك بديهي، بل إنه حتى بإمكانه أن يختار أن يفكر في هذه المسألة أو لا! أن يقرأ هذه العبارات أو لا!
هل الإنسان حر أم مقيد؟
فطالما بقي الإنسان إنسانًا فهو حر مختار. فقط في بعض الأحيان تكون اختياراته محدودة، فقد يتم تقييد جسده لكن يظل عقله حرًا، وقد يختار في موقف ما بين الموت والحياة، فهو هنا مختار وحر لكنّ اختياراته قليلة.
وبشكل عام فالإنسان حر في مقام تفكيره وسلوكه الاختياري دائمًا، لكن حريته محدودة باختيارات معينة تفرضها عليه طبيعته ووجوده، فمثلًا لا يمكنه أن يختار أن يطير دون وسائل مساعدة، ولا يمكنه أن يختار أن يخلق كونًا آخر، وأحيانًا تضيف الظروف الاجتماعية التي يخلقها الإنسان قيودًا أخرى تحدد اختياراته، لكن بالرغم من ذلك يظل حرًا.
لكن الإنسان يتميز عن الحيوان في إدراكه وحركته بوجود العقل، الذي يوفر له إدراكًا أكثر تجريدًا وكليةً من إدراكات الحيوانات، وقدرة على معرفة المبادئ والقوانين والعلل والغايات، والبحث في الوجود حوله، والتساؤل من أين جاء وإلى أين الذهاب وما هو الطريق، ومعرفة كمالاته الحقيقية وسعادته الحقيقية.
وإمكانية التحكم في جسده ونفسه بناءً على هذه الإدراكات، والاستغناء عن بعض اللذات الحيوانية والجسدية من أجل تحقيق سعادته وتكامله الحقيقي.
فالمميز الحقيقي للإنسان هو عقله، وكمالاته الحقيقية هي تلك التي يشخصها وينالها بعقله، فتكون بذلك حريته الحقيقية هي حرية عقله في مقام الفكر والعمل. وكما نرى فيما سبق، أن مفهوم الحرية ليس غاية، بل هو وسيلة للحيوان والإنسان للتكامل والسعي لكمالاتهما.
الحرية فيما ينبغي أن تكون عليه
أما المستوى الثاني الخاص بما ينبغي أن يكون، أي كيف يجب أن نتصرف مع مفهوم الحرية الموجودة بالفعل؟ وهل نقيدها أم لا؟ وبأية قيود؟ فهو خاص بالسياسات والقوانين والتشريعات والأخلاق التي تحكم التجمع الإنساني، كيف يجب أن تتعامل مع الحرية؟
اقرأ أيضاً:
أن تكون حرا .. عن الحرية المسؤولة البنَّاءة أتحدث
موقف الشريعة من مفهوم الحرية
إن مفهوم الحرية المطلقة في التشريعات هي فوضى تامة أو “يوتوبيا” حالمة لا وجود لها في الواقع، فمن ذاتيات الاجتماع الإنساني حدوث التزاحم في المصالح. أي قد تتداخل وتتشابك الحقوق، فيريد هذا شيئًا من حقه، وهذا شيئًا آخر من حقه أيضًا، لكن تتعارض أو تتشابك حقوقهما وإرادتهما، ولكي ينتظم الاجتماع ويحصل كليهما على حقوقهما لا بد من نظام وقوانين.
فكل الأنظمة السياسية والاجتماعية والقانونية قائمة بالضرورة على هذه المقدمات: وهي ضرورة الاجتماع الإنساني، وحتمية التزاحم في هذا الاجتماع، وبالتالي ضرورة وجود النظام أو التنظيم أو القانون أو التشريع الذي ينظّم هذا الاجتماع، حتى يتمكن كل ذي حقٍ من الحصول على حقه، وإلا تحول الاجتماع إلى غابة ولم يعد اجتماعًا إنسانيًا أصلًا، فلا بد من قيود حتمًا على حرية الأفراد ولو حتى لمجرد تنظيم قواعد المرور!
وحتى الكتابات “النيوليبرالية” المقدسة حول مفهوم الحرية، والمأخوذة بالوهم الإطلاقي لمفهوم الحرية كما يصفها د. الطيب بو عزة، نجدها تبحث عن الشروط التي يجب أن تسبق الحرية، والحدود التي يجب أن توضع لها، وتقول بوجوب تقييد الحرية حتى على مستوى الفرد، وتقيدها بالقدرة على استشعار المسؤولية، كما هو واضح بشكل خاص عند “روبر نوزيك”.
منشأ الاختلافات حول مفهوم الحرية
فالاختلاف بين الأطروحات المختلفة هو فقط في منشأ هذه القيود والقوانين التي تُحدّ من مفهوم حرية الإنسان، ومن يضعها، ومن ينفذها، وكيف ينفذها. أي في البحث عن الشروط التي يجب توفرها لكي يكون الشخص لديه اختيارات أكثر أو حرية أكثر أو أقل، وما هي حدود الحرية التي يجب السماح بها؟ وما هي غاية هذه القيود وهذه القوانين؟
وبشكل عام وبدون الدخول في تفاصيل التشريعات والأنظمة والأيديولوجيات، يولي المنهج العقلي أهمية كبيرة لصفات من يقوم بالتشريع، إذ يجب أن يكون الأكثر علمًا بحقيقة الاجتماع وحقيقة المجتمعين وحقوقهم وظروفهم. ويولي اهتمامًا خاصًا أيضًا بمن يقوم بالتنفيذ، إذ يجب أن يكون الأكثر علمًا بالتشريع والأكثر عدلًا في تنفيذه.
كمال الإنسان بين مفهوم الحرية والقيد
أمّا الغاية التي يهدفها فهي كمال الإنسان الحقيقي على جميع المستويات دون إغفال مستوىً دون الآخر، فيسعى إلى كماله الجسدي والمادي، وأيضًا النفسي والروحي والعقلي، ويسعى إلى كماله الفردي والاجتماعي معًا، ويسعى لأن يحصل كل ذي حق على حقه وأن يضمن له ذلك.
فتكون غاية القوانين هي نفس غاية الحرية، هي نفس غاية الاجتماع هي نفس غاية الفرد. وغاية التشريع هي نفس غاية الوجود، في تلاحم وانسجام بديع. غاية واحدة، هي وصول الإنسان بما هو إنسان لأقصى كمال حقيقي ممكن له، بتحقيق العدل في نفسه وفي المجتمع.
تعدّدت معاريف مُصطلح الحريّة عند المذاهِب المختلفة، لكنّه ورَد في إعلان حقوق الإنسان الصّادر عام 1789م على أنّه: “حقّ الفرد في أن يفعل ما لا يَضُرّ الآخرين”.
مفهوم الحرية في القانون
الحرية ليست تعريفا اجتماعيا وسياسيا فقط بل قانونيا أيضًا، فمفهوم الحرية في القانون هي القوة الاختيارية التي يتمتع بها الأفراد في المجتمع، ضمن حدود معينة لا يتخطاها الفرد لأنّ القانون سيعاقبه عند تماديه في بعض الأمور الممنوعة،
فهدف القانون هُنا ليس التقييد أو الإلغاء بل الحفاظ على الحرية وتوسيعها ضمن حدود معينة أي حريّة التصرف للفرد، يفعل ما يريد في شخصه، وأفعاله، وممتلكاته كلها، له الحق بفعل ما يريد في إطار تلك القوانين التي سيعاقب عليها في حال مخالفتها.
يشير د. مهند نوح، لجانب الحريات العامة، من الموسوعة العربية، دمشق. بأن الحرية La liberté إحدى الكلمات العصية على التعريف، وذلك لأنها تملك من القيمة أكثر مما تملك من معنى، أما من الناحية القانونية فإن الحرية هي القدرة على التصرف ضمن مجتمع منظم Société organisée،
وفقًا للتحديد الذاتي، ولكن ضمن القيود والقواعد القانونية الموجودة والسارية في ذلك المجتمع. ولا تملك الحرية وجودًا لذاتها، بل لا بد أن تكون محلًا لاعتراف قانونيٍّ بها، يحدد مضمونها، وينظم ممارستها ضمن نطاق ضرورات الحياة الاجتماعية.
مفهوم الحرية في الإسلام
تُعرّف الحُرية بقُدرة الإنسان على اختيار أفعاله، بحيث يملك أفعالهُ وإرادته، وهو قادرٌ على فعل أمرٍ ما أو عدم فعله، ومفهوم الحرية في الإسلام أيضًا: هو التّصرُّف في الأُمور المشروعة، من غير اعتداءٍ على الآخرين وعلى حُقوقهم، فيكون ذلك مُقيّدًا بالشَرع وأوامره ونواهيه التي تهدف إلى جلب الخير، والابتعاد عن الشرّ،
والإرادة عند الإنسان من الحريّة، وقد كرّم الله تعالى بها الإنسان على باقي المخلوقات، ولكنَّها مُنضبطةٌ ولا تُخرِج المسلم عن عُبوديّته لربِّه، وهذا ما يُميِّز الحُريّة في الإسلام، كما يظهر بوضوح أن الحرية بين الرؤيتين الإسلامية والغربية تتفقان في أهمية قيمة الحرية، وفي أن الحرية ليست مطلقة،
فهي مقيدة بالدين والشريعة في الإسلام ومقيدة بالقانون في المنظور المادي، فالحُريّة في الإسلام هي: “ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرُّف لاستيفاء حقّه” دون تعسف أو اعتداء، أما من المنظور الغربي إجمالا هي: “الانطلاق بلا قيدٍ، والتحرُّر من كلّ ضابطٍ، والتخلُّص من كلّ رقابةٍ”.
مفهوم الحرية الشخصية
الحرية الشخصية أن يكون الإنسان قادرًا على التصرف في شؤون نفسه، آمنًا من اعتداء غيره على ذاته وعرضه وماله، كما أن مفهوم الحرية الشخصية للإنسان حق كفلته جميع الشرائع السماوية والقوانين البشرية، يجعل الإنسان يمتلك حق تقرير مصيره، وحق اتخاذ قراراته الشخصية، وحق التملك،
وحق الكرامة وعدم الامتهان، وحق التعلم والتعليم، واختيار العمل، والاتصال والتواصل مع الآخرين، وكذلك حق البيع والشراء، والسفر والتنقل في الأرض، وحق اختيار المأكل والملبس، واختيار الزوج أو الزوجة،
وللتدليل على أهمية الحرية الشخصية وأثرها على سلوك الفرد والجماعة أن الحرية والكرامة الإنسانية ليستا شيئين ينموان بنمو الإنسان، ولكنهما شيئان ولدا معه وأحس بهما وكافح من أجلهما وأراق دمه في سبيلهما، وقد يتطور مدلولهما ويتقدم ويتسع، وقد يتخذ أشكالًا متعددة، ولكنهما من حيث الجوهر باقيان خالدان.
مفهوم الحرية للأطفال
وأنوه هنا بالحقوق الأساسية للطفل، وهي حق الحياة والتعليم والتربية، والعيش الكريم، وحقوق الصحة والغذاء، ذلك بالإضافة لحقوق متفرعة أخرى، لكن سأقف عند حق الطفل في «الحرية» والتي أجدها كلمة فضفاضة لا تصلح لأن تنسب للأطفال بسهولة كبيرة،
فحرية الطفل تبدأ باحترام حقوقه، وحصوله على تلك الحقوق، فلا بد من تعليم الطفل حقوق الآخرين، واحترامها وعدم التعدي والتجاوز عليها، تمامًا كما أنّ الآخرين عليهم أن يحترموا حقوقه وحريته هو أيضًا عليه أن يحترم حقوق الآخرين،
وهذه المفاهيم تبدأ من شعور الطفل بالملكية، فنبدأ في احترام ممتلكاته والاستئذان منه عند استعمال ما يملك، وإعطائه حق الحفاظ عليها ومن هنا يتعلم احترام ملكية الغير، ويتعلم الاستئذان، كل هذه الأمور وتلك المفاهيم تكبر معه ومن خلالها يعرف متى تكون الحرية له ومتى تكون لغيره.
حرية التعبير عن الرأي
يعبر مصطلح الحق في حرية الرأي عن الحق في اعتناق الآراء المختلفة دون أي تدخل من الآخرين، ودون الخضوع لأي استثناء أو تقييد، كما يشمل حرية التعبير عن هذا الرأي الخاص بأية وسيلة بما في ذلك طرق الاتصالات المكتوبة، أو الشفوية، أو وسائل الإعلام المختلفة، والأعمال الفنية، والإعلانات التجارية،
غير أن هذا الحق ليس مطلقًا بصورة تامة بل تقيده بعض المسؤوليات الخاصة لعدة أسباب مهمة، لكي تكون حرية سليمة وحقا أصيلا بأن تحافظ على الآداب العامة، والخصوصيات الفردية، وأن تتخذ من النقاش الموضوع سبيلا لها، وكلما ألزم الشخص نفسه بالبحث وتبني الحقيقة كان أكثر استفادة من حق التعبير عن الرأي.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا