الاقتصاد والاعتدال
الاقتصاد هو التوسط في حياة الإنسان كلها، يدخل فيه مأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره، لأنه بمنزلة التوسط بين الإفراط والتفريط والزيادة والنقصان والإسراف والتقتير.
واقتصاد الفرد كاقتصاد الدولة قوة وضعفًا واحتياطيًا ومديونية، ويُعرف الشخص الحكيم باقتصاده وتصريف أمور نفسه أولًا، فإذا ضبط نفسه وبيته فإنه يصلح أن يتولّى أيّ منصِب على المستوى الرسمي أو الخاص.
ومن هنا ينبغي عدم الإسراف في الطعام إذا كان الدخل متواضعًا بسيطًا على القدّ، وكذلك استئجار شقة صغيرة ذات أثاث متواضع إذا كانت الحالة ضيّقة، وشراء الملابس ينطبق عليه نفس الشيء تمامًا، وعندما يزيد الدخل ويرزق الله رزقًا حسنًا طيبًا ويُعطي من فضله، فلا مانع أن يُوَسّع الإنسان على نفسه وبيته ومَن حوله.
كما ينبغي على الإنسان أن لا يُفرط في ديونه حتى يستطيع السّداد ولا يعجز عن السير في الحياة، فالدَّيْن كالعبودية همٌّ بالليل وذُلٌّ وانكسار بالنهار، فالدائن يمتلك كرامتك، والمبيتُ للشخص الحي طاويًا حافظًا ماء وجهه خير له من الاقتراض وتسويده.
الإفراط كالتفريط
ولقد ذكرتُ في كتابي (شرح المختار من كتاب الحوار) أنّ (تس كونغ) سأل الحكيم كونفوشيوس قائلًا: “أيهما أفضل (شيه) أم (شانغ)؟” فرد عليه: “إنّ (شيه) مُفْرط و(شانغ) مُفرّط”، قال: “إذن (شيه) أفضل من (شانغ) أليس كذلك؟” قال الحكيم: “الإفراط كالتفريط”.
فالتشدّد والتسيّب ضِدان لا يجتمعان ورفيقان لا يلتقيان، ذلك أنّ النفس جُبِلَت على التوسط والاعتدال، فالوسطية من شِيَم العقلاء والحُكماء، أما الإفراط أو التفريط مثل كلمة انحراف، فهي على الحافة ليست في الوسط، فإحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، فرق كبير بين الإنسان العاقل الموزون والإنسان غير المنضبط.
والمرء عندما يُخيّر بين أمريْن فمن الجميل أن يختار أيسرهما وأسهلهما، فالمسألة بسيطة والحياة سهلة وجميلة، فلماذا التعنّت والمشقة؟ فالاعتدال من غير إفراط أو تفريط ولا مُبالغة في الأمور أو إهمالها.
إنها الوسطية التي يحتاجها عالم العصر الحديث سواء على مستوى الأفراد والدول، أو المؤسسات والهيئات، أو الحكومات والمنظمات، للعيش بأمان وسلام وهدوء واطمئنان.
الاقتصاد يبدأ من البيت والحياة
والاقتصاد في الكلام من الأمور الحميدة والفاضلة، فعندما أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) بلسانه وقال لمعاذ بن جبل (رضى الله عنه): “كُفَّ عَلَيْك هَذَا. قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟”.
فالرجل المكتمل الرجولة يحاول جاهدًا التحلّي بالفضائل والبُعد عن الرذائل، يحاول جاهدًا مصاحبة الصالحين والبعد عن المفسدين، يحاول جاهدًا التمسُّك بالسنة ومنهج السابقين الأولين، وبناء بلده وأمته والمحافظة على مُقدراتها.
والرجل السّوي الذي لا شذوذ عنده ليس لديه مُغالاة ولا تنطّع في الكلام، فلا يتكلم كلامًا أقل منه ولا بكلام أكبر منه لا يستطيع تنفيذه ويكون عاجزًا عن تحقيقه، بل مقتصد معتدل وسطيّ في كل شيء وخصوصًا في كلامه، وكذلك يجتهد في عمله ويراعي ضميره.
وعلى هذا ينبغي أن يبدأ الإنسان على قدره واحدة واحدة وخطوة خطوة، فالصبر على النفس وعدم الإسراف أفضل بكثير من صبر الناس علينا إذا كانوا يمتلكون شيئًا من الصبر، فالشخص الذي يكون غنيًا وينجح بسرعة البرق وينال منصبًا مرموقًا لا يستحقه دون تعب أو تضحية من وقته وجهده لا يستمر في الطريق ولا يحافظ على ما في يديه.
إنّ الاقتصاد يبدأ من البيت والحياة بالتعاون والتسامح والتغافل أحيانًا، والتوازن في الإنفاق وعدم الإسراف والعدل وعدم القسوة المُفرطة أو الميل الواضح لأحد الأبناء، وعدم إهمال المنزل، والوقوف على التشارك، وقيام كل فرد في الأسرة بواجبه وما عليه قبل النظر إلى حقوقه وما له.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا