اللغة كمدخل لفهم العالم – الجزء الثاني
ثلاث رؤى يستعرضها د. مجدي الجزيري
زكي نجيب محمود
في معرض انشغاله باكتشاف وتحديد علاقات التواصل والتفاعل والتداخل والتشاكل بين رؤية وموقف أي من منتجي الفكر والمعرفة وبين اللغة، يستعرض د. مجدي الجزيري أستاذ الفلسفة بجامعة طنطا ثلاث رؤى، الأولى يمثلها زكي نجيب محمود، وتذهب إلى أن اللغة العربية في حاجة إلى ثورة كي تخرج من عباءة البلاغة، والألفاظ المعجمية المهجورة لتعبر عن الواقع وتواكب متطلبات العلم الحديث.
عثمان أمين
والثانية لعثمان أمين وترى أن اللغة العربية تعبر عن روح الأمة، والدفاع عنها هو دفاع عن الهوية العربية ـ الإسلامية، وأنها لغة قوية ثرية متمكنة مكتفية بذاتها، بارعة في مشتقاتها وصوتياتها وتعبيراتها المحكمة، وليست في حاجة إلى دعم خارجي.
حسن حنفي
والرؤية الثالثة يمثلها حسن حنفي الذي يرى أن اللغة العربية يغلب عليها الطابعان الديني والتاريخي، وهي لغة صورية مجردة، يرفضها العصر، وتحتاج إلى تجديد جذري، بحيث تكون لغة إنسانية عقلية قادرة على مخاطبة الأذهان، ومفتوحة لا قيود، بما يجعلها تقبل التغيير والتبديل في المفاهيم والمعاني، وتحوي مفردات دالة على الحس والمشاهدة والتجربة، وأن تكون لغة عربية وليست مستعربة.
رؤية في موضع آخر
وهناك رؤية يعرضها د. مجدي الجزيري في موضع آخر من دراساته حول تصور أنطون سعادة لدور اللغة في صناعة وترسيخ وجود الأمة الواحدة، حيث يرى أن وحدة اللغة إن كانت لا توجد الأمة من عدم وتقررها، فإنها ضرورة لخلق تماسكها، لكنها يمكن أن تكون دافعا لتعزز النزعة التوسعية مثلما رأينا في تجربة ألمانيا النازية،
التي كانت اللغة واحدة من أسس تبنيها لنظرية “المجال الحيوي” إلى جانب وحدة السلالة، وهي نظرية تعني النهم إلى ضم كل الأقاليم التي تنطق بالألمانية أو ينتمي سكانها إلى العرق الآري، ثم إذابتهم في أمة لها قوام متماسك.
لكن اللغة لا تصلح وحدها لتكوين أمة، وإلا ما قامت أمم يتحدث المنضوون تحت لوائها عدة لغات ولهجات. وإذا كان من الضروري أن تتحدث الأمة لغة واحدة فإنه ليس من اللازم أن تكون اللغة شرطا وحيدا وصارما لقيام أي أمة، وربما يكون الأهم هو الأدب الذي يبدعه متفردون منها، ليعبر عن روحها، ويحفظ مثلها العليا.
مصطلحات لا تشمل الحقيقة
وعطفا على اللغة، ينتقد د. مجدي الجزيري بعض المصطلحات المتداولة، لا سيما في مجال السياسة، والتي ينتجها الغرب ويلقيها في طريقنا، فنلتقطها سريعا ودون تمعن ونرددها بإخلاص، وفي غير وعي بما تؤديه من وظائف لصالح من أنتجها، وعلى حسابنا، مثل “دول الشمال” و”دول الجنوب” و”الغرب” و”الشرق” و”دول قوية” و”دول ضعيفة” و”دول غنية” و”دول متقدمة” و”دول متخلفة” و”دول كبرى” و”دول صغرى” و”دول ناجحة و”دول فاشلة”.
ورغم أن هذه المصطلحات لا تخلو من التعبير عن جانب من الحقيقة، فإنها لا تشمل الحقيقة كلها في نظر الجزيري، لأنها لا تتضمن بواعث نشأتها، ولم تصدر بعد إقرار وتحديد من له حق صكها وصياغتها وتقديمها، ولم تصاحبها بالطبع مذكرة تفسيرية توضح ما يقف خلفها من مصالح سياسية واقتصادية،
وما وراءها من رؤى فكرية ومعرفية وصور ذهنية نمطية هي أحيانا بنت التاريخ بأحداثه، والأنثربولوجيا بتصوراتها، كما لم يشارك الكل في تحديد المؤشرات أو المقاييس التي تم الاستناد إليها في سبيل الاطمئنان إلى استنتاجات من هذا القبيل.
هذا التصور أخذ بعدا أوسع في رؤية د. مجدي الجزيري لدور اللغة في تحديد وضع “الدولة القومية” في ظل “نظام دولي جديد”، حيث تحاول الدول الكبرى تبرير وصايتها وهيمنتها عبر مجموعة من الشعارات الأخلاقية التي ترمي إلى تكريس سلطانها، على حساب “الاحترام المتبادل” و”المصالح المشتركة” و”حق تقرير المصير” و”الحل السلمي” و”الحد من التسلح”،
التي هي في النهاية تركيبات لغوية مقابلة للنزوع إلى الهيمنة، لكنها لا تصمد غالبا في وجه نظيرتها التي تطلقها القوى المتحكمة في النظام الدولي، والتي تدرك أن قوة الخطاب تسبق الأسلحة الفتاكة، والقدرات الاقتصادية الفائقة.
(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا