المجتمع المصري: من “مكتبة الأسرة” إلى “محكمة الأسرة”
من مكتبة الأسرة إلى محكمة الأسرة
كانت مزحةً حينما كتبت منشورا يقول بأني أريد أن أكتب كتابا بعنوان: “المجتمع المصري: من مكتبة الأسرة إلى محكمة الأسرة، الأسباب والتحولات”.
إشارة مني بـ”مكتبة الأسرة” إلى ذلك المشروع المصري، الذي يصدر من “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، يهدف إلى التشجيع على القراءة والمطالعة والتواصل الحضاري ونشر الوعي بالتراث الإنساني، والذي يقدم أعمالا إبداعية أدبية وفكرية وفلسفية، شكلت وعي ومسيرة كثير من المثقفين داخل مصر وخارجها، وهو ما أرمي به نحو القراءة والتعليم بشكل عام.
أما عن “محكمة الأسرة”، فتلك التي تنعقد للبت في النزاعات والدعاوى المتعلقة بالقضايا الأسرية مثل الطلاق والخلع والنفقة وحضانة الأطفال، إشارة مني إلى زيادة نسبة الطلاق في المجتمع.
لكنني بعدها وجدت أنه موضوع جدير بالكتابة، إذ لاحظتُ أن ثمة علاقة وطيدة بين القراءة والتعليم ونسبة الخلل في المجتمعات وعلى رأسها بطبيعة الحال زيادة نسبة الطلاق.
العلاقة بين المجتمع الفاضل والمنازعات القضائية
وبالرغم من أنه مبحث في الدراسات الاجتماعية، إلا إن له صلة بالحقل الفلسفي، إذ إن كل الطرق تؤدي في النهاية إلى الفلسفة باعتبارها أم العلوم، ويمكن وضعه ضمن ما كتب قديما في مسألة “المدينة الفاضلة” التي اهتم بها الفلاسفة، وكيف يمكن بناء سردية لما يجب أن يكون عليه المجتمع الفاضل،
فعن العلاقة بين المجتمع الفاضل والمنازعات القضائية كتب الفيلسوف “ابن باجة” [487هـ – 533 هـ] رسالة “تدبير المتوحد” قال فيها بأن المجتمع الفاضل هو الذي يخلو من قاضٍ وطبيب، إلماعًا منه إلى أن كثرة القضاة والأطباء مؤشر إلى كثرة المنازعات والأمراض، وهما مؤشران لاقتراب المجتمع من الفساد وابتعاده عن الفاضلية.
فكلما كثرت القضايا والنزاعات في المجتمع زاد معها عدد القضاة الذين يحتاجهم المجتمع ليبتوا في فض تلك القضايا والنزاعات، والأمر كذلك في الأطباء، فكلما كثرت الأمراض كان المجتمع في حاجة إلى أطباء لمعالجة الأبدان من عللها كي تتماثل للشفاء، فالعلاقة بين المجتمع النموذجي أو المثالي وبين حاجته للقضاة والأطباء علاقة عكسية.
وقد طالعتُ تقريرا نُشر في مجلة “البيان” التونسية، يفيد بأن نسبة الطلاق تقل بين الزوجين المتعلمين عنها بين الزوجين اللذين لم يتجاوز تعليهما المرحلة الابتدائية أو التكوين المهني. وأضاف التقرير أنه كلّما كان تعليم الزوجين عاليا، انخفضت نسبة المشاكل والخلافات بينهما، وربما كان السبب في ذلك عائد إلى أن ارتفاع المستوى التعليمي يعني انخفاض في عدد الأبناء،
وارتفاع دخل الأسرة، وتقارب وجهات النظر بين الزوجين من الناحية المالية، وتقليص الخلافات التي يكون سببها قلة الدراية بحقوق وواجبات الحياة الزوجية، وانعدام ثقافة الاختلاف وأخلاقيات الحياة التي تدعمها بدورها العملية التعليمية بصورة عامة.
الجهل هو أصل الشرور
وعلى الرغم من أن التقرير يلاحظ فقط التعليم من الناحية الأكاديمية وحسب، أي الحصول على مجرد شهادة، إلا أننا لو نظرنا للمسألة بنظرة أكثر تحقيقا واعتبرنا أن التعليم ليس فقط مجرد الحصول على تلك الشهادة وأنه على الجانب الآخر هو بناء إنسان (“مواطن” بتعبير اصطلاحات العملية التعليمية) صالح في المجتمع، ومن ثم فهو عملية معرفية وسلوكية معا.
لكانت العلاقة بين درجة التعليم وبين نسبة الطلاق علاقة عكسية وعلى أقوى ما تكون، فمتى كانت درجة التعليم في مجتمع أعلى، كانت نسبة الطلاق في المجتمع أقل، والعكس كذلك.
فإن كان ثالوث الأمراض الاجتماعية هو “الفقر” و”المرض” و”الجهل”، فإن الجهل هو أصل الشرور كما كان يقول سقراط، وأن المعرفة هي الفضيلة، وذلك لأن الجهل قد يكون سببا لكل من الفقر والمرض كذلك.
فالمجتمع المتعلم مجتمع فاضل، والمجتمع الفاضل لن يكون في حاجة إلى قاضٍ، كما كان يرى الفيلسوف الأندلسي ابن باجة، وهذا بطبيعة الحال يعني أن المهتمين برصد أمراض المجتمع عليهم أن يأخذوا هذا الجانب في اعتبارهم وبشدة، بأن للتعليم تأثيرا في علاج الأمراض الاجتماعية،
وأن القراءة هي أهم ما يكمن في العملية التعليمية، فالقراءة حل وعلاج لكثير من مشكلات المجتمع، القراءة هي الفريضة الغائبة، ذلك بأن المجتمع الذي يقرأ هو مجتمع متحضر، قادر على فهم العالم من حوله، يعي ما له من حقوق وما عليه من واجبات.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا