فن وأدب - مقالاتمقالات

حاجتنا إلى النقد الأدبي الخلَّاق.. رؤية وتجربة – الجزء الثاني

تجربتي الذاتية مع النقد مزدوجة، في العلاقة والدور، إذ أنني بقدر ما أنتظر من النقاد النظر في أعمالي الروائية والقصصية، وفي أشكال النصوص السردية وكذلك ديوان الشعر الذي حوى قصائد أنشدتها في الصبا، فإن كثيرا من الكتاب ينتظرون مني أن أقرأ أعمالهم وأتناولها نقدا، وفق نهج حر لا يتقيد بالتصورات والاقترابات النظرية ثم يدعها تتحكم فيه، ولا يبدع هو فيها جديدا،

وهي مسألة أدركت معانيها ومراميها وقت إعدادي أطروحتي للدكتوراه التي مضيت فيها على الجسر الواصل بين الأدب والسياسة، ونشرتها في كتاب صدرت منه عدة طبعات عنوانه “النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية”، ثم بانت ممارستي لهذه الطريقة من النقد في كتب لاحقة مثل “بهجة الحكايا.. على خطى نجيب محفوظ”، و”أقلام وتجارب”، و”عالم في العراء.. الإعلام الجديد والثقافة والمجتمع”، وفي كتاب قيد النشر بعنوان “الزمن المستمر للقصة القصيرة”.

لكني الآن لست بصدد ما أكتبه من نقد عن الآخرين، فهذا له مقام آخر، إنما ما يكتب عن أعمالي من نقد، سواء جاء في شكل دراسات أو مقالات صحفية مقيدة بمساحة لا تجعل صاحبها قادرا على قول كل شيء يراه في النص، مهما أوتي من قدرة على التكثيف والذهاب إلى المعنى من أقرب طريق، وإن كان هناك من النقاد من يمتلك قدرة فائقة على أن يحمل مقاله القصير زبد القول، وبذا يجد القارئ فائدة في إرشاده إلى الكُتَّاب، ويجد الكاتب فرصة ليقف، دون عناء، على ما يراه الناقد حول مضمون النص وشكله.

حرب لا تنتهي

ومقارنة بكثيرين فإني أنال حظا مُرضيا من العطاء النقدي على النحو السابق، ويزيد عليه ما يأتي في شكل أطروحات جامعية للماجستير والدكتوراه تصل إلى عشرين أطروحة _حتى الآن_ بعضها في جامعات مصرية وأخرى خارج مصر.

ومع هذين المسارين هناك دراسات أعدها باحثون في السلك الجامعي للترقي إلى درجة الأستاذية أو إلى الأستاذ المساعد، وتوجد كذلك كتابات حرة من متذوقين للأدب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ويسعد أي كاتب أن يكون هناك باحث أو ناقد قد اختص به في أطروحة جامعية ستظل تلازمه طوال حياته، وقد تدفعه فيما بعد إلى أن يعد أبحاثا أخرى عن الكاتب، لا سيما إن كان قد رسخ اقتناعه بنصوصه، وراقت له، ووجد شهيته مفتوحة دوما لالتهامها، ثم إمعان النظر فيها ليخرج منها برؤى نقدية، على هذا النحو أو ذاك.

ولا ينسيني هذا أن أنظر بعين التعاطف مع أدباء يواصلون إبداع نصوص جيدة، لكنهم لا يجدون ما يكافئها من النقد الجاد، وأسمع كثيرا منهم وهم يبثون لاعج الشكوى ليل نهار عن نسيان النقد لهم أو تحيزه ضدهم، ويستغرقون في استنتاج الأسباب التي جعلته يتخذ هذا الموقف منهم، سواء بالتجاهل أو التغافل أو النسيان أو التناسي.

وهناك فريق منهم إن وجد نقدا فإنه لا يلبث أن ينقده، لأنه لم يمدحه، أو كان، من وجهة نظره، فيه تجن عليه، وعدم فهم له وإدراك كامل لنصه. وبعض ما يقوله هؤلاء فيه انتصار للذات، على حساب الحقيقة، وبعضه يكون فيه شيء منها، لأن هناك نقاد يقسون كلما نطقوا أو كتبوا، خصوصا على من هم في أول الطريق، وبعضهم يتوهم أن بيده تدشين كاتب أو إنشاءه من عدم، وإزالة آخر أو هدمه بعد إحباطه ودفعه دفعا إلى الكف عن الكتابة.

وقد عرفنا في حركة النقد ألاعيب من هذا القبيل، وكأننا في حرب لا تنتهي، والساحة لا تكفي سوى لقلم واحد، ونوع واحد من الكتابة، لكن أي كاتب له مشروع إبداعي يلح عليه لا يجب أن يلتفت إلى هذه الإحن الصغيرة.

فرقا كبيرا بين ما يفرضه الذوق وما تحدثه الدخيلة السيئة

من جانبي أحرص على قراءة ما يكتب عني من نقد، بصدر منشرح، وعقل منفتح، متقبلا كل رأي مهما كان. لكني، وكما ألزم نفسي كناقد بهذا، لا أنتظر ممن يكتب عني أن يعتقد أن لديه سلطة الحكم على العمل بكلمة قاطعة، كأن يقول: “رواية جيدة” أو “رواية سيئة”، إنما قدرته على أن يبين كل ما في الرواية من جوانب، قد تكون خافية عني ككاتب، بل هي كذلك في كثير من الأحيان.

فالناقد حامل الصكوك ينحرف عن الصواب بالضرورة، لسبب بسيط وهو أن أي عمل أدبي يخضع للتذوق، والذي يختلف من شخص إلى آخر، ودور الناقد هو تجلية النص وتحليله، وتركه لمتلقين يتفاوت تقييمهم لأسباب شتى.

وسأضرب هنا مثلا على اختلاف النقاد بروايتي “شجرة العابد”، فبعد أن صدرت قرأها ناقد كبير، وكتب عنها مقالا جيدا، لكنه رأى أن الصفحات الأولى فيها جاءت ثقيلة، لاحتفائها بالوصف البليغ، الذي أدى من وجهة نظره إلى تباطؤ السرد، ورأى أن الرواية بدأت بعد ثلاثين صفحة، وطالب بأن يتم تذويب ما قبلها في ثنايا العمل خلال طبعات لاحقة.

وجاء ناقد كبير آخر ورأى العكس تماما، وقال إن الإسهاب في الوصف كان ضروريا لأن الرواية تتحدث عن شجرة أسطورية كان لا بد من شرح تفاصيلها على النحو الذي صار، وهو أمر لائق بواقعية سحرية.

لا ضير أن تختلف أذواق النقاد ومناهلهم وطرائقهم، فهذا يثري الحركة الأدبية في العموم، لكن هناك فرقا كبيرا بين ما يفرضه الذوق حتى ولو تردى، وما تحدثه الدخيلة السيئة حتى لو سعى صاحبها إلى إظهار عكس ذلك.

فصاحب الذوق المعتل، من وجهة نظر آخرين، يرجى شفاؤه من هذه العلة، إن افترضنا وجودها، أو توهمناها، وادعينا أن أذواقنا نحن سليمة معافاة. أما صاحب الدخيلة السوداء فلا يصلح معه شيء.

الكتابة عن أي عمل أدبي أفضل كثيرا من تجاهله

ومن حسن حظي أنني لم أقابل من الصنف الثاني، حتى الآن، سوى اثنين، الأول كان يتملكه شعور غريب _كلما جلس ليكتب عن نص أدبي_ أن قلمه يمثل “معيار القيمة” أو هو “المقياس السليم”، وأن الكل ينتظر رأيه ليؤمن بأن ما حكم فيه من الفنون أو هو ليس كذلك، وتحول معي إلى “معاقب”، وربما توهم أنه بما كتب سيهيل الإحباط على رأسي فأتوقف عن الكتابة، فيتحقق هدفه، وهو الشخص الذي أثق في أنه غير قادر على كتابة قصة قصيرة واحدة.

والثاني كان روائيا يمارس النقد شفاهيا وخفيفا فتحول إلى “متعقب” فأمسك برواية مطبوعة في إحدى الندوات وراح يقول: “ضبطت ثلاثة أخطاء نحوية واثنتين في الصرف وأربعة مطبعية وواحدة إملائية”، ناسيا أنه أمسك بعشرة كلمات فيها عوار من بين نحو خمسين ألف كلمة.

تجاهلت الأول، وكان ردي عليه، بأن وضعت اسمه على قائمة من ترسل إليهم دار النشر أعمالي تباعا، ليعرف أن ما سعى إليه، حسبما أسر هو لبعضهم، لم يتحقق. فلما تتابعت أمامه نصوصي، وعرف قدر ما فيها من فن، وأدرك أن حكمه كان جائرا متسرعا بل مغرضا، وأن دخيلته لم تحقق له ما يصبو إليه، استقام بعض الشيء، واعترف لي حين قابلته ذات مرة مصادفة بأنه قد قرأ  روايتي الأخيرة ووجدها عالية المستوى.

أما المتعقب فنسي أنني ناقشت له بعض رواياته وقصصه وكتبت عنها، ولم أتوقف عند أخطاء من هذا القبيل، وطلبت منه بعد الندوة أن يحض دار النشر على الاستعانة بمدقق لغوي، وتناقشنا وقتها عن أن الكاتب مهما امتلك ناصية اللغة فإن أشياء ستمر منه، حتى لو راجعها عشر مرات، لأنه يقرأ من الذاكرة، ولذا لن يلاحظ بعض أخطائه، ومن هنا تأتي أهمية وجود عين أخرى للمدقق أو المصحح اللغوي، وكذلك المحرر الأدبي.

ومع هذا، وفي كل الأحوال، فإني أؤمن بأن الكتابة عن أي عمل أدبي، حتى لو قدحا، أفضل كثيرا من تجاهله، مهما كانت نوايا القادحين أو أهدافهم أو ما عبروا به عما يفكرون فيه.

فأي كتابة عن نص تعبير عن اهتمام، به أو بكاتبه أو بكليهما، وهي تصب في خاتمة المطاف ضمن المسار النقدي العام، أما التجاهل، حتى لو كان كفا عن إبراز عيب وكشف نقص، فإنه سيبقى صمتا أو امتناعا عن إلقاء ولو حجر صغير في بحيرة راكدة.

فرصة لتحليل أعرض وأعمق للنصوص

وإذا كان إطلاق المدح والقدح على عواهنه، يمكن أن يكون موفورا في مقال صحفي، فإن من نافلة القول أن هذا يقل أو يتضاءل إلى أدنى حد، بل يجب أن يزول ويتلاشى في عمل بحثي واسع، يتبع صاحبه المنهج العلمي بأدواته وإجراءاته المنضبطة.

ولهذا فإن ما كتب عن رواياتي وقصصي من أبحاث للترقى وأطروحات للماجستير والدكتواره كان فيه من الوسع ما أعطى فرصة لتحليل أعرض وأعمق للنصوص، لا سيما أن كل بحث يركز على نقطة محددة، أو يضع افتراضا جليا، أو يسعى إلى الإجابة عن سؤال واضح، أو يتصدى لفهم إشكال معين،

ومن ثم يحفر عميقا في سبيل تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، وفي ركاب هذا يراكم الفائدة لدي أنا ككاتب، لأنه يضعني في صورة كلية لجانب من كتابتي، سواء كان البحث يدرس رواية أو مجموعة قصصية واحدة، ويفصل فيها، أو يأخذ موضوعا واحدا في روايات عديدة من قبيل دراسة المكان، أو الواقعية السحرية، أو التصوف أو الصورة الفنية أو حضور التراث أو التناص.. إلخ.

علاوة على هذا وذاك، هناك شكل من النقد جرى على نصوص أعمالي، ليس هو بالمقالات الصحفية، ولا الدراسات الأكاديمية، ولا الأعمال النقدية المطولة التي تقدم إلى ندوات أو مؤتمرات أدبية، إنما هي بأقلام كتاب أو نقاد يعملون خارج الصحف والجامعات ولا يعرفهم الناس بأنهم نقاد محترفون.

فقد قرر بعض هؤلاء الكتابة عن الصورة الأدبية الكلية لدي، حتى اللحظة الراهنة، فأخذ الروايات والمجموعات القصصية جميعا، كل منها على حدة، وراح يمعن النظر فيها، ثم كتب عنها ما هو بين المقال والدراسة، وجمع شتات ما انتهى إليه فصار كتابا كاملا من النقد الانطباعي، وبعضه لا غنى عنه، لا سيما إن كان من متذوق أو كاتب يعرف فنون الأدب، وهو شكل يأتي أيضا، حتى لو على خفة وعبور، من قراء يعلقون على الكتب في مواقع إلكترونية مخصصة لذلك.

وأيا كان نوع النقد الذي تعرض أصحابه لأعمالي الأدبية فإنه قد أفادني، ليس فقط في الذيوع والرسوخ على هذا الدرب الشاق، إنما أيضا في صقل موهبتي، وتطوير قدرتي على الكتابة تباعا، ولهذا يأتي كل عمل لاحق لي مستفيدا مما قيل بشأن عمل سابق، وهذا دور أشعر بامتنان شديد للنقاد على اختلاف مدارسهم، لأنهم يلعبونه في مسيرتي الأدبية.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الثقافة وبناء شخصية الفرد والمجتمع

الشعر والعِلم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري