مقالات

«زينون» يُرشد أتباعه إلى بابي الحقيقة والباطل

تستوقفني كثيرًا هذه اللوحة للفيلسوف اليوناني «زينون الإيلي» Zeno of Elea وهو يُرشد الناس إلى بابي الحقيقة والباطل، وهي لوحة جدارية في مكتبة بلدية إليسكوريالEl Escorial  بمدريد، ترجع إلى القرن السادس عشر، وتُنسب إلى الرسام الإيطالي «بارتولوميو كاردوتشي» Bartolomeo Carducci (1560 – 1608)، أو النحات والمهندس المعماري الإيطالي «بيليجرينو تيبالدي» Pellegrino Tebaldi (1527- 1596)، حيث يبدو «زينون»

وقد امتلكته حماسة الرغبة في التمييز بين الصدق والكذب، والحقيقة والوهم (بغض النظر عما عناه بكلٍ منهما، وبغض النظر عن حُججه العبقرية والصادمة ضد الحركة والكثرة)، بينما ينقسم من انتبهوا له إلى تابعٍ ملهوف، وشاكٍ متردد، ومُعرضٍ مستنكر، وغير مُبالٍ غارقٍ في ملذاته!

زينون

كان «زينون» مُدافعًا عن أستاذه «بارمنيدس»، مُرددًا لكلماته: الثبات المطلق، السكون الدائم، الملاء الكامل، الواحد اللا منقسم، الكل اللا متغير، الموجود الحامل في طياته لآفاق الوجود، العدم الممتنع خلف جنبات الفكر، والصمت السرمدي لكون توحي مظاهره زيفًا بالحركة والتغير، إلخ.

إسهام زينون في محتوى المذهب البارمنيدي

وهي كلمات تردد صداها في أنحاء اليونان القديمة، فكانت إيذانًا بالبدء في حوار جدلي صاخب لم نسمع فيه كلمة أخيرة، ولا حجة فاصلة، عبر تاريخ الفلسفة! ورغم علمه، وعلم أستاذه، أن مقولاته تجافي مسلمات الحس المشترك، وأن الشقاق –أو التغير– هو الشرط النهائي لكل شيء وفقًا لأحكام الحواس، لكنه اهتم بالبحث في المنطق المستتر للوجود،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فاتجه بفكره إلى الجوهر الواحد الكامن خلف مظاهر التعدد والحركة والخلاء والزمان: إن الوجود والواحد متكافئان، والواحد ثابت، ساكنٌ في حدوده، مقيمٌ كله في ذاته، فما من جديد يرد إليه من الخارج، لأنه لا شيء يولد من عدم، وما من شيء يخرج منه، لأن الخروج يعني العدم، والعدم ممتنع منطقيًا لأنه يعني اللا وجود.

ولئن كان الوجود ملاءً كاملًا كلًا واحدًا لا منقسمًا، فلا معنى إذن للقول بحركات الأشياء في المكان والزمان، أليست الحركة تفترض الفراغ، وهو لا شيء وغير موجود؟ بل ألا يستلزم الزمان أن يأتي إلى الوجود ما هو غير موجود، وقد علمنا أن ما لا يوجد لا يمكن التفكير فيه لأنه بلا معنى؟

ومع أن «زينون» لم يُضف شيئًا يذكر إلى محتوى المذهب البارمنيدي ذاته، إلا أن إسهامه البارز قد تجلى في تطويع ما نسميه الآن «قياس الخـُلف» Reductio ad absurdum لإثبات كذب ما قد يناقض هذا المحتوى، وبطلان أية مقولة يدعم صاحبها فكرة الكثرة العددية للأشياء، ومن ثم حركتها.

وكأني ببارمنيدس –بعد أن أعيته انتقادات الخصوم– يجلس في حضرة التلميذ ملتمسًا لديه أسلحة الذود عن مذهبه، ولو بمفارقات يعمد العقل المبدع لها إلى نثر بذور الشك والتناقض فيما يُسلم به جملة الناس من مبادئ واعتقادات!

هلا أفقنا؟!

يرمز «زينون» في اللوحة لكل من أدرك زيف الحياة التي يُهيمن عليها الباطل منذ أن وطأ الإنسان بقدميه ذلك الكوكب المُثقل بنا، وكل من عزف سيمفونيات الوعي لجمهورٍ من الصُم عبر عصورٍ خلت، وكل من أدرك أن تحقيق المرء لماهيته ووجوده مرهونٌ، لا بالأجوبة المُسكتة والمُسكنة، وإنما بالأجوبة التي تثير مزيدًا من الأسئلة، وبالأسئلة التي تضرب العقل فتصيب الوهم في مقتل!

كأنه يريد أن يصرخ: أيها الناس استفيقوا، فنحن نعيش ونُرزق بفضل الله، لا بفضل الآخرين، فلا تخدعنكم سطوة الباطل، وبريق الكذب، وراحة الوهم، ولذة الفساد، وكأنه يقول لكل الذين يعملون في صمتٍ دون ابتغاءٍ لشهرة، أو سعي إلى منصب زائل، ولكل الذين أخلصوا النية دون أن يعرفهم أحد: لا تهنوا ولا تحزنوا، إن الله يعرفكم جيدًا!

وحتى في مواجهة الموت، عرف «زينون» كيف يُحبط الناس إيقاظًا لهم من غفوتهم العميقة؛ إذ يُروى عنه أنه حين اعتقل بتهمة التآمر ضد الطاغية ديميلوس Demylus رفض التعاون معه، وبدلًا من أن يُدلي بأية كلمات، قام بعض لسانه قاطعًا له وباصقًا به في وجه آسره!

كأني به الآن يُنادي: أيها الناس، لئن ذهبت عنا كارثة فيروس كورونا، وتراجعت كوارث التغير المُناخي المتتالية، ولم تُوقظ ضمائرنا وعقولنا، فلتكونوا على يقينٍ بأننا نحن الوباء، ونحن الكارثة، على هذه الأرض.. لم تأت الكوارث لتقتل فقط، بل لكي توقظنا من غفلتنا، فهلا أفقنا؟!

اقرأ أيضاً:

عن أصل الفلسفة أتحدث

الفارابي وما ينبغي معرفته قبل تعلّم الفلسفة

سقراط وتهمة إهانة الآلهة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية