سيمفونية الإدراك وسؤال «مولينو» المُحير!
ماذا يحدث إذا أبصر الأعمى فجأة؟ هل سيتخلص فورًا من «عُكازه»؟ أو بعبارة أخرى، هل سيُدرك بالرؤية ما كان يدركه باللمس (عُكازه) بحيث يستطيع تمييزه من بين كافة الأشياء، وتحديد هويته، وبناء خبرة حسية تُطابق بين الجسم الملموس والجسم المرئي؟
تلك هي المشكلة التي حيرت الفكر الفلسفي لبضعة قرون، وشغلت –وما زالت تشغل– حيزًا هامًا من مناقشات علماء النفس وطب العيون والفسيولوجيا العصبية في عالمنا المعاصر.
عُرفت المشكلة تاريخيًا باسم «مشكلة مولينو» Molyneux’s problem، وهي بمثابة تجربة فكرية في الفلسفة تتعلق بالشفاء الفوري من العمى، صاغها للمرة الأولى فيلسوف الطبيعة الأيرلندي «وليام مولينو» William Molyneux (1658 – 1698) في القرن السابع عشر (حيث كانت زوجته عمياء) في صورة سؤال طرحه على الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» John Locke (1632 – 1704)، واهتم بها الأخير في كتابه «مقال في الفهم الإنساني» An Essay Concerning Human Understanding (1689)،
ويمكن إيجاز المشكلة على النحو التالي:
لنفرض أن رجلا قد وُلد أعمى ، وقد بلغ الآن سن الرشد، وتعلم كيف يميز بين جسم مكعب وآخر كروي من المعدن ذاته عن طريق اللمس، ولنفرض أنه قد رُد إليه بصره فجأة، فهل يستطيع التمييز بين هذين الجسمين بالنظر فقط، ودون اللجوء إلى اللمس، استنادًا إلى الخبرة اللمسية التي تمتع بها من قبل بالفعل؟
أجاب «مولينو» بالنفي، مؤكدًا أن خبرة اللمس تختلف تمامًا عن خبرة النظر. أما «جون لوك» فقد رد على «مولينو» قائلا: «أتفق مع هذا السيد المُفكر، الذي أفخر بصداقته، في إجابته عن السؤال، وأرى أن الرجل الأعمى لن يتمكن من النظرة الأولى أن يُحدد أيهما الجسم المكعب وأيهما الجسم الكروي، اللهم إلا إن مرَّر أصابعه عليهما مسترجعًا خبرة اللمس».
ثمة مشكلة مماثلة أثارها «ابن طفيل» (1105 – 1185) إبان القرن الثاني عشر في روايته الفلسفية «حي بن يقظان»، وإن كان قد استخدم الألوان بدلا من الأشكال، فالشخص الأعمى لا يعرف الألوان إلا بأسمائها، في معية تعريفات نوعية لتحديدها، فهل بإمكانه إذا أبصر فجأة أن يُميز بين الألوان استنادًا إلى الأوصاف التي أعطيت له من قبل؟
في استجابته لهذه المشكلة، ذهب الفيلسوف الأيرلندي «جورج باركلي» George Berkeley (1685 – 1753) في مقاله «نظرية جديدة في الإبصار» A New Theory of Vision (1709) إلى أنه لا توجد علاقة ضرورية بين عالم اللمس وعالم الإبصار، ولا ينشأ الربط بينهما إلا على أساس الخبرة فقط.
الأسباب التي تعوق الفحص التجريبي في العلم الحديث
أما في العلم الحديث، فلعل أحد الأسباب التي تعوق الفحص التجريبي لمشكلة «مولينو» هو الندرة الشديدة في عدد البشر الذين تمكنوا من الرؤية بعد سنوات من العمى الخلقي، وقد قدَّر عالم النفس الإيطالي «ألبرتو فالفو» Alberto Valvo عدد الذين استردوا أبصارهم بعد علاج المعوقات الخلقية بأقل من عشرين حالة خلال الألف سنة الماضية.
كذلك درس عالم بيولوجيا الأعصاب الأمريكي «يوري أوستروفسكي» Yuri Ostrovsky وآخرون حالة فتاة وُلدت عمياء واستردت بصرها في الثانية عشرة من عمرها بعد عملية جراحية، وأفادوا في تقريرهم بأنها استطاعت التعرف على أعضاء أسرتها من خلال البصر فقط بعد ستة شهور من إجراء الجراحة، بينما استغرق تعرفها على الأشياء المنزلية بالرؤية ما يقرب من سنة.
وفي سنة 2003، قام «باوان سينها» Pawan Sinha، أستاذ الرؤية وعلم الأعصاب الحاسوبي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بوضع برنامج لبحث الموضوع ذاته، وأتيحت له الفرصة في نهاية المطاف للعثور على خمسة أفراد استوفوا متطلبات تجربة تهدف إلى الإجابة عن سؤال «مولينو» تجريبيًا.
وقبل العلاج، كان هؤلاء الأشخاص (الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية سنوات وسبعة عشر سنة) قادرين على التمييز بين الضوء والظلام فقط، وأجريت العلاجات الجراحية الناجحة فيما بين سنة 2007 وسنة 2010، ليخضعوا جميعًا لاختبار مُصمَّم لكل منهم بعناية بعد ثمانية وأربعين ساعة من استردادهم لقدرتهم على الرؤية الكاملة،
الإجابة عن سؤال «مولينو»
ووفقًا لنتائج هذا الاختبار خلص «سينها» إلى أن الإجابة عن سؤال «مولينو» هي باختصار: «لا»، فقد اتضح أنهم غير قادرين على الربط بين إدراك موضوع ما عن طريق حاسة اللمس وإدراكه عن طريق حاسة البصر! ولم تكن لديهم القدرة على نقل المعرفة المستقاة من حاسة اللمس إلى المجال البصري. ومع ذلك، تمكن المجربون من إخضاع ثلاثة من الأفراد الخمسة لاختبارات أخرى في تواريخ لاحقة، وتبين وجود تحسن ملحوظ في الربط بين حاستي اللمس والبصر، بلغت نسبته من 80% إلى 90%.
الشاهد حتى الآن هو صعوبة الإجابة عن سؤال «مولينو» بشكلٍ قاطع، فالإدراك ليس مجرد خبرة حسية ذات بُعد واحد، صحيح أن حواسنا قد تكون متمايزة حين تعمل، وأن بعضها بمثابة بوابات للأبعاد المكانية (كاللمس)، وبعضها الآخر بمثابة بوابات للأبعاد غير المكانية (كالإبصار)، لكنها جميعًا تتفاعل بطريقة مُعقدة لإنتاج تجاربنا الحية.
أضف إلى ذلك أن ثمة أحاسيس تنبع من داخلنا، تُعرف باسم «الأحاسيس العميقة»، منها مثلا أنك إن أغمضت عينيك للحظة فسوف تكون على دراية بمكان كل طرف من أطرافك دون النظر إليه أو لمسه، وإذا أقدمت على رفع صندوق به أشياء تعرف أنها ثقيلة، لكن شخصًا ما قد أفرغه من هذه الأشياء دون أن يُخبرك، فقد يؤدي رد الفعل إلى تطاير الصندوق وطرحك أرضًا، لأن ثمة إحساس لديك بالجُهد اللازم لرفع شيء ما من مكانه!
وعلى الإجمال، تظل مشكلة الوعي والإدراك من أعقد وأهم المشكلات، ليس فقط في تاريخ الفلسفة، وإنما في كثرة من أدبيات العلم والفن والدين.. ماذا إذن عمن يُشوه، وعمن يتخلى عن، تلك النعمة التي حبانا الله بها، تحت وطأة جهالات المصالح والأيديولوجيات؟!
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا