سارق ومسروقفن وأدب - مقالاتمقالات

سارق ومسروق – الوجه الثامن والثلاثون

أربعون وجها للص واحد "متتالية قصصية"

لم تشغله في طريق العودة إلى البيت سوى العبارة الأخيرة التي أطلقها الطبيب النفسي، ولاحت له واجهة دار الإفتاء، التي يمر عليها كثيرا، كلما انتقل من بيته أو مكتبه إلى وسط البلد. فكر أولا أن يتصل بشيخ ينتمي إلى هذه الدار يقدم برنامجا تلفزيونيا ويتلقى أسئلة المشاهدين، لكنه خشي أن يعرف أحد صوته، أو يسأله الرجل عن مهنته، وسينكر بالطبع، فيتلعثم، وقد يحس الشيخ بكذبه فلا يعتني بالرد عليه.

لم يكن أمامه من سبيل سوى أن يذهب هو إلى الدار. فاستيقظ ذات ضحى، وتوضأ، وخطف مسبحة من على الكوميدينو، حرص على أن تكون بلون البذلة التي سيرتديها، ولم ينس أن يأخذ معه هويته، مؤملا أن الشيخ حين يراها سينصت إليه بكل جوارحه.

“هل سأقول له الحقيقة؟”

سأل نفسه، وغرق في حيرة مقاومًا دفقة من لوم سرت في شرايينه، لكنه سرعان ما طردها، ورمى بصره إلى يساره، فلاحت المقابر مسربلة بالصمت الجليل، وتذكر المقبرة التي سرقها من أخيه، ووجد نفسه للمرة الأولى يشرد في معنى الموت.

وصل إلى دار الإفتاء، وأبرز للواقفين على الباب هويته، فأخذوه سريعا إلى أحد أمناء الفتوى. جلس أمامه، وعرفه بنفسه، وحكى له عن الوجوه التي تطارده. تعجب الشيخ مما يسمع، وهو يقول في نفسه أن الحري بمن يسمعه أن يذهب إلى طبيب نفسي، ثم سأله مباشرة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ـ هل ذهبت إلى طبيب نفسي؟

رد على الفور:

ـ هو من دلني عليكم.

هنا أدرك الشيخ أن وراء الوجوه التي تخيفه شيئا يحتاج إلى فتوى، فسأله:

ـ هل لهم دَين في عنقك؟

ـ لا.

ـ هل كانت بينكم شركة وانفضت؟

ـ ليس بالضبط.

ـ بمعنى؟

ـ حسابات معلقة، وأخذت حقي، لكنهم لا يقرون به.

ـ كيف؟

وشرح له كل شيء من وجهة نظره، وهو يتكئ على الحروف، ويشير بين حين وآخر إلى شرف مهنته الذي يمنعه من فعل ما يُتهم به من أصحاب الوجوه التي تطارده، فأيقن الشيخ أنه أمام رجل جاء يسعى وراء شيء يرطب له ضميره القحل، فنفر منه، لكنه لم يشأ أن يغضبه، فهو لم يقف يقينا على حرام فيما فعل، لأنه سمع وجهة نظر السارق فحسب، والذي تحدث عن متهميه على أنهم ظالموه. كما أن الرجل ممن يتحسب الناس لغضبهم في هذه الأيام. لهذا قال له:

ـ استفت قلبك وإن أفتوك.

ـ كيف؟

ـ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.

ـ أنا حكيت لفضيلتك.

ابتسم الشيخ في فتور، فهو لم يسمع إلا الأيام واحدة من الحكاية، وقال:

ـ هل تحكي للآخرين، وفي صراحة؟

صمت برهة، وقال:

ـ كل من يعرفني ويعرف أصحاب الوجوه التي تطاردني لديه خبر بما فعلته حتى أسترد حقي.

هز الشيخ رأسه، وقال:

ـ إذا كنت تعتقد أنه حقك، فلم لجأت إلى دار الإفتاء؟

ـ زيادة في اليقين.

وخرج من عنده كما دخل، لكنه هذه المرة لم يكن يدب قدميه في الأرض كما اعتاد في مشيته، إنما يضع يده على قلبه، كي يأمره بأن يفتيه بما يُذهب عنه الوجوه التي تطارده.

اقرأ أيضاً:

الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، الوجه الرابع، الوجه الخامس

الوجه السادس، الوجه السابع، الوجه الثامن، الوجه التاسع ، الوجه العاشر

الوجه الحادي عشر، الوجه الثاني عشر، الوجه الثالث عشر، الوجه الرابع عشر

الوجه الخامس عشر، الوجه السادس عشر، الوجه السابع عشر

الوجه الثامن عشر، الوجه التاسع عشر، الوجه العشرون، الوجه الحادي والعشرون

الوجه الثاني والعشرون، الوجه الثالث والعشرون، الوجه الرابع والعشرون

الوجه الخامس والعشرون، الوجه السادس والعشرون، الوجه السابع والعشرون

الوجه الثامن والعشرون، الوجه التاسع والعشرون، الوجه الثلاثون

الوجه الحادي والثلاثون، الوجه الثاني والثلاثون، الوجه الثالث والثلاثون

الوجه الرابع والثلاثون، الوجه الخامس والثلاثون، الوجه السادس والثلاثون، الوجه السابع والثلاثون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري